من فضلك قم بزيارة مدونتى "تعالوا "

Monday, November 24, 2008

حديث مآلات الفتنة


لمن ننحاز؟ هل ننحاز إلى السنة أم إلى الشيعة؟ هل ننحاز إلى الشيخ يوسف القرضاوي ومحبيه ونحن منهم، أم إلى ما طرحه الأستاذ فهمي هويدي والدكتور محمد العوا والدكتور طارق البشري ومحبيهم ونحن منهم؟


هذه هي الأسئلة التي دارت في رءوس كثير من الشباب وهو يشهد أحداثاً يخشى أن تقود إلى فتنة كبرى، وكرة تتدحرج وتكبر دون أن يعرف أحد إلى أي مدى ستكبر وكم ستدهس في طريقها، خاصة أن القضية الداخلية بدت أشبه بأن على المرء أن ينحاز إلى أحد المعسكرين ليثبت ولاءه.وسواء كانت الأزمة الأخيرة مبالغاً فيها أو كانت فعلاً تستحق ما رأيناه ونراه؛ ففي تقديري أن هذه الأزمة تمثل لنا فرصة كي نبذل الجهد في فهم الواقع كما هو لا كما نتمناه، ثم تقنين ووضع سبل حضارية للتعامل مع مثل هذه الأزمات، تلك الأزمات المتعلقة بتهديد بنية المجتمعات. فقد يظن البعض أن ما يحدث الآن يدمر فكرة النهضة ويجعل الأمة تيأس من نفسها، بينما أرى في هذا الأمر مقدمات يجب أن تُستثمر للإجابة على سؤال مهم مطروح في قضية النهضة، وهو سؤال العرقيات والمذاهب والطوائف والأديان، وكيف يمكن للمجتمع أن يستوعب كل هذا التنوع؟ ولا تتم نهضة دون وضع أجوبة حقيقية لمثل تلك الأسئلة.. فهل نغتنم الفرصة؟ وهل نؤمن أنه كفانا هروباً من التفكير الجاد في مثل هذه الإشكاليات بحجة عدم إشعالها؟ فمجتمعاتنا الآن في مفترق طرق،بعضها يقود إلى الوحدة والاحتشاد في مشروع النهضة، وأخرى تقود إلى التفتت والتخلف، والبعض يعتقد أن الأزمة هي أزمة سنة وشيعة، لكننا لو أعدنا تصنيف الأزمات الكبرى القابلة للاشتعال في شكل حروب لوجدنا أن التأزمات متنوعة، فعلى الصفحة العرقية هناك تأزم عرب وكرد وفرس وتركمان وبربر. وعلى الصفحة الدينية هناك مسلمون ونصارى ويهود ويزيدية، وعلى الصفحة الإسلامية هناك طائفية تقسيمية سنة وشيعة وإباضة، وعلى صفحة السنة هناك كذلك أهل العقيدة الصحيحة والمشكوك في عقائدهم والمتبرأ منهم، وعلى صفحة أهل العقيدة الصحيحة هناك مذاهب فقهية تطالب بحقها في الاعتراف وتشكو من الإقصاء، وعلى صفحة الحركات الإسلامية هناك مسائل يجب أن تحسم بين المهادنين والجهاديين وما بينهما، مثلما حدث في العراق بين السنة أنفسهم بين أصحاب الخيار السياسي والعسكري، وهناك انقسامات سياسية مثلما هو حادث في فلسطين بين فتح وحماس، ثم أخيراً هناك صفحة الاحتلالات من العراق وفلسطين وأفغانستان... والقائمة تطول، ومقدمات كل مشكلة من هذه المشاكل موجودة وقابلة للتفجير إذا وجد الصاعق المناسب! فماذا ننتظر؟ هل نستعد لمواجهة كل هذه التحديات بحكمة وبصيرة أم نفتح الجراح ولا نداويها؟
القضية مثار الجدل اليوم:والمشكلة الحاضرة اليوم هي مشكلة الشيعة والسنة كما يعطى لها العنوان الآن، ولا أقول أنها بالتحديد هي المشكلة، ولكن هكذا يتم تعريفها، وهؤلاء هم أطرافها، من العراق إلى إيران إلى الكويت إلى دول الخليج إلى لبنان إلى سوريا؛ بل إلى الجاليات في أوروبا، شريط مقلق من التوترات التي لا ينقصها من يواصل صب الزيت على النار! مآلات المشهد كما نقرأها:لو استمر رمي الحطب في النار واستمر التأزم بدخول أطراف لم تكن تعيشه في مأساته فالحرب الأهلية قادمة لا محالة، ومآلاتها معروفه ومقدماتها معروفة، فمشهد استعلاء بعض الأطراف على أخرى يتولد عنه استعداء للآخر وسباب وشتائم، ثم تبدأ الاشتباكات. حتى إذا أكلت الحرب الأخضر واليابس تدخل المجتمع الدولي ليضع الوصاية على هذه المجتمعات التي لم تحسن معالجة نسيجها البيني، وما أمر الهوتو والتوتسي في أفريقيا ببعيد. وعادة ما تعتقد الأطراف المتخاصمة أنها بالعنف ستحل الإشكالية، لكن الحرب بعد أن تنهك الطرفين ويتأكدان أن العنف عاجز عن حل الأزمة؛ يلجئان إلى إيجاد سبل لتقنين التعايش, أي أن الشعوب تحارب في الاقتتال الداخلي لا لكي تنجز بالحرب حلاً، وإنما لتتأكد من عجز العنف عن إبادة الطرف الآخر.وهذا المسار ليس جديداً في العالم، ففي الحروب الدينية في أوروبا كالحروب الصليبية (ضد المسلمين)، والحروب البينية الداخلية (بين مذاهب الدين المسيحي)، استنزفت الحروب البينية أوروبا ما يزيد عن المائة عام وانتهت بمعاهدة فيستفاليا عام 1648 واضعة أساساً جديداً للشرعية الدولية، فاعترفت بالسيادة المطلقة للدولة القومية وعقدت اتفاقيات تعزز التسامح الديني وتناهض الثأر في الممارسات السياسية.وفي المقابل هناك مسار آخر أيضاً مجرب يقوم على فلسفة جديدة وهي التمييز بين التدافع المقبول وغير المقبول، فإن قلنا أن من حق أي صاحب فكرة أن يعبر عنها وينشرها ويبين ميزاتها دون أن يعتدي على الآخرين، عندها يمكن القول أن التدافع مقبول، فهو تدافع أفكار ورؤى.
ما الذي يزعج في الظاهرة؟إن الأمر المزعج ليس دخول أفكار جديدة في بعض المجتمعات التي خلت منها من قبل، فالظاهرة هي سياسية بامتياز، وعند تمييز السياسي عن الديني في هذا المشهد نستطيع أن نحدد ما الذي يزعجنا.. هل هي سياسة الحكومة الإيرانية؟ أم حجج المذهب الشيعي؟فحجج المذهب الشيعي وما يطرحه من شبهات على السنة مدونة منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، وهي لم تتغير منذ ذلك الحين، كذلك الردود الفكرية على تلك الشبهات مدونة منذ القدم.ولقد اعترف الأزهر بصحة التعبد على المذهب الشيعي الجعفري، ولكن ما لم يقله أن الموضوع ليس متعلقاً بالنظرة للفقه بل بالنظرة للسياسة والإمامة، وهنا مكمن المعضلة خاصة في العصر الحديث حيث لم يقنع الشيعة بانتظار المهدي الغائب بل آمن الحركيون منهم بضرورة إعداد المشهد لظهوره وبالتالي برزت فكرة دولة المهدي وجيش المهدي، وهي الفكرة التي أتاحت قدراً من الحركية الجديدة في المذهب وأدت لتوترات على المحور السني الشيعي فكيف يمكن إيجاد معادلة جديدة في ظل المقولات الجديدة؟إن التمييز بين الديني والسياسي يمنحنا خيارات أكثر وفرصاً أفضل لفهم الواقع، فمن الممكن أن نفهم إنزعاج السنة من تحرك الحكومة الإيرانية لتوظيف الحالة الشيعية واستدعائها إلى ساحة الفعل السياسي باعتبارها إحدى أدوات الدولة الإيرانية. وهذه القضية يجب فصلها عن مسألة المذهب الشيعي حتى لا يتحول الحديث إلى الخوف من انتشار مذهب معين، فمعركة مقاومة مد المذاهب معركة فكرية بالدرجة الأولى، ومعركة مقاومة مد النفوذ السياسي للدول واستدعاء الدين لنصرة برامجها هي معركة سياسية بالدرجة الأولى. عندها يمكن الاعتراض على خطورة ممارسات الحكومة الإيرانية على النسيج الاجتماعي وتوجيه النقد لها، وليس الحديث عن الخوف من التشيع أو الحديث الطائفي. وأزمة المذهب الشيعي في المناطق السنية أنه مذهب له رؤية سياسية خاصة، وولاء للدولة الحاضنة (إيران)، فهو ليس خلاف كخلاف الشافعية والمالكية، ولكن الشيعة طائفة لها ولاء وطموح سياسي، يجعل أية دولة تخشى من أن يكون انتشار "الفكر الشيعي"- بلغة السياسة- بمثابة تعدي على سيادتها ورهنها للخارج.أما بالنسبة للظاهرة الدينية في حد ذاتها إذا ميزناها عن الظاهرة السياسية فنحتاج إلى مراكز بحثية لرصد الظاهرة وتقويمها، ويشمل ذلك رصد ما ينتجه الطرفان من منتج ثقافي وتأثيره على النسيج الوطني، هل يؤدي إلى وحدته أم تمزيقه، وتحديد مواطن السلبيات في منتج كل طرف، وتحديد مصادر الدعاية السلبية لدى الطرفين وتحديد المسئولين عنها ووضع استراتيجية للتعامل معهم. أما الآن فهناك ملاءة واسعة تطرح على الجميع، باعتبار أن الكل يقول قولاً واحداً، وأن أحد الطرفين كله يعج بالشياطين، والطرف الآخر تسبح فيه الملائكة، والحقيقة أن كلا الطرفين يعج بالصنفين. وليست هناك شيطانية مطلقة في هذا الطرف أو ذاك.
محاولات علاج المشكلة: لقد مرت الأمة عبر مسارها التاريخي بعدة محاولات للتعامل مع تلك الإشكالية، فنذكر على سبيل المثال:المواجهة الفكرية: من خلال الحجة والحجة المضادة بين السنة والشيعة، وهذا موضوع مطروق تاريخياً، وليست كتابات ابن تيمية في الرد على الشيعة عنا ببعيد، وهو مدخل لم يؤتي ثماره لا بزعزعة هؤلاء أو تحريك هؤلاء من معسكراتهم.
المدخل السياسي: كلقاء ساسة الدول في المحافل والمؤتمرات والحديث عن المصالح المشتركة، وهو مسار أيضاً لم يؤت ثماره.
مدخل التقريب: مثل مؤتمرات التقريب ولقاءات المعتدلين والدعوة إلى تكوين تجمعات تجمع علماء من الطرفين، وقد أخذ أيضاً هذا المدخل مداه خلال العقود الفائتة دون أن نجني مكسباً صلباً بعيداً عن العلاقات الدبلوماسية الهشة.
ترى ما الذي جعل مثل تلك المبادرات تعجز عن إبداع حل لهذا التحدي؟ وما نوع المبادرات المطلوبة مستقبلاً حتى يمكن أن يكون مستقبلنا أفضل؟ وماذا تعنينا تجارب الأمم الأوروبية والأمم الأخرى لحسم النزاع بغير طريق العنف؟ ربما تكون هذه الأسئلة هي محور اهتمام المفكرين والاستراتيجيين في المرحلة الحالية والمقبلة. الخطاب الاستراتيجيأغلب المتحمسين اليوم الداعين لخوض الصراع السني الشيعي ربما لم يتبصروا إلى أن هذه ليست الأزمة الوحيدة؛ بل قد تكون مقدمة لإشعال بقية الأزمات. لذلك يحتاج الأمر إلى روية وتبصر، بعيداً عن الحماس المفرط الذي يعمي العقل، كذلك نوجه نفس الكلمة إلى المغالين في التهوين من شأن ما هو جاري، متبنين خطاب الدبلوماسية الذي لا يقدم حلاً عملياً أيضاً وقد يحمل نفس الخطر الكارثي، فهم بدعوى عدم تفخيخ المجتمع يتجاهلون من يزرعون فيه القنابل.ويمكن القول أن هذه الأزمة وما شاكلها يسهم في إشعالها نوعي الخطاب "الحماسي المفرط" الذي يزج بالناس في حرب مجهولة المصير والبوصلة، وال"الدبلوماسي المميت" الذي يترك أصحاب المعاناة المباشرة بدون توجيه عملي مما يجعلهم يضربون الصفح عن هذا الخطاب المثالي، إننا بحاجة إلى خطاب ثالث وهو الخطاب الاستراتيجي.
نقاط على طريق الاستراتيجيةوإذا كنا نرى أن حل مثل هذه الإشكاليات يتطلب خطاباً استراتيجياً فإننا نذكر هنا بعض النقاط التي يمكن أن تساهم في صياغة هذا الخطاب:· الإنسان حر في اعتناق ما يشاء من أفكار على مستوى الاعتقاد الديني، وليس لأبناء الوطن الواحد أن يواجهوا الفكر إلا بالفكر، لكنه ليس حراً في أن يقدم ولاءه لوطن آخر أو يطعن وحدة الوطن بممارساته. وأي فكر يسعى لتمزيق المجتمع يجب التصدي له بطريقة تكفل وحدة المجتمع، سواء كان ذلك بدعوى سنية أو شيعية أو عرقية..الخ
· تجنب التعميمات القاتلة (كلهم يقولون..كلهم يفعلون) فهي مقولات مضللة، وتسلب المجموعات المعتدلة في الطرفين فرصة القيام بدور عاقل، إذ أنها تضعهم في خانة المعسكر الذي تُصَّوب النار عليه، وبالتالي يلجئون إلى صد العدوان.
· القضية سياسية بامتياز يُستخدم الدين أداة فيها من قبل السياسيين. لذلك عند مواجهتها يجب مواجهتها سياسياً، والساسة يستخدمون رجال الدين –بوعي منهم أو بدون وعي- لتنفيذ مصالح السياسة، فإن رأوا السكوت على الطرف الآخر منعوا كل ما يسيء إليه، وإن رأوا أن المعركة السياسة قد آنت أرخوا لرجال الدين العنان كي يتحدثوا بما شاءوا.
· يرى التيار المعارض للتصعيد أن ضرب الشيعة اليوم يخدم الأجندة الأمريكية والإسرائيلية، وأن الأمة يجب أن تتكتل في مواجهة العدو الواحد. بينما التيار المؤيد للتصعيد يطعن في كل موقف للشيعة يمكن أن يصب في مصلحة الأمة لصد العدوان، فيهونون من الانتصارات، وكلا التيارين يلتبس عليهما أننا قد نؤيد مواقف الحكومة الإيرانية أو حزب الله في مواقف، ونعارضها ونقاومها في مواقف أخرى. أي أن أهل السنة يسعهم أن يقاوموا كل ممارسة شيعية تفتت مجتمعاتهم، ويدعموا كل ممارسة شيعية تحمي لحمة المجتمع. ونفس الأمر في الدول التي بها أغلبية شيعية، من حقهم أن يقاوموا أية ممارسة سنية تهدف إلى تفتيت مجتمعاتهم، ويدعموا كل ممارسة سنية تقوي مجتمعاتهم.فالقضية هنا ليست قضية دينية بقدر ما هي سياسية تضع في الاعتبار الأول وحدة المجتمعات واستقرارها، فإن خرج فريق من السنة يريد أن يفت في عضد مجتمع سني ويمزقه، فعلى المجتمع أن يقاوم هذا الفريق. أي إننا نتحدث هنا عن دعم أو مقاومة ممارسات بغض النظر عن ملة ومذهب صاحبها.
· إذا كان تهديد النسيج الاجتماعي يتطلب مقاومة فيجب تحديد الأدوات المناسبة لتلك المقاومة، بحيث لا تزيد من جراحات المجتمع، أو تدخله في دوامة من الصراعات التي لا تنتهي. فعلى التيار المنادي بالتصعيد أن يحدد إلى أية درجة سيتم التصعيد، فهناك فرق بين "رفع الصوت" وبين "الصراخ"، ما هي الدرجة المطلوبة من الفعل؟ بحيث تعالج الموضوع ولا تؤزمه. فبين إشعال الحرب وبين السكوت والقبول بهيمنة الطرف الآخر سلم واسع من الخيارات فهل اختبرناه؟
· يجب التمييز بين الأصل والاستثناء، فالدولة الحديثة في الغرب تكفل لكل مواطن الحق في أن ينشر فكره من خلال آليات ووسائل سلمية تضع المجتمع في مسار التدافع الفكري المحمود، لكن مجتمعاتنا اليوم تعيش حالة الاستثناء، فما نراه في العراق من احتقان بين السنة والشيعة يفرض على الأمة حالة استثنائية يجعلها تتهيب من أي فكر جديد قد يفتت المجتمع، لذلك يجب أن تضع في قائمة أولوياتها الحيلولة دون تفكك بقية المجتمعات وانقسامها فمنع تفكيك المجتمعات لا يقل أهمية عن صد العدوان الإسرائيلي الأمريكي، ويحتاج إلى استراتيجية مبدعة. وعلى الطرف الآخر حامل الفكر الوافد على المجتمع أن يدرك أنه عليه بدوره أن يحسن اختيار التوقيت، وتقدير الظروف، حتى لا يؤجج الصراع.
نحو استراتيجية عامةأما عن صناعة الاستراتيجية التي تعيد بناء مجتمعاتنا على أسس جديدة ففي تقديري أننا يجب أن نفكر عبر مسارين:الحل البنيوي طويل المدى:ويشمل ثلاثة أمور:المراجعات الفكرية لكل موروثاتنا الدينية والثقافية والتاريخية التي تذكي هذا الصراع، ليس من أجل تصويب أفكار الجيل الحالي من الطرفين الذي يعيثا في الأرض فساداً، ولكن من أجل تأسيس عقول أجيال جديدة يُنتزع منه فتيل الأزمة، أجيال جديدة تعي جيداً كل الأفكار المطروحة في مجتمعها، وتدرك أن تقرير الحقائق يختلف عن تقرير الحقوق، فالمسيحي يعترف بكفره ببعض ما يؤمن به المسلم، والمسلم يعترف بكفره ببعض ما يؤمن به المسيحي، فهذا إقرار بالحقائق، لكن ذلك لا يترتب عليه إهدار للحقوق، أو أن يكون أحدهما مواطناً من الدرجة الثانية.
تأسيس دولة المواطنة والعدل والحرية والمجتمع المترابط القوي، وهي الدولة حاملة المشروع الحضاري التي تحشد المجتمع كله في مسار للفعل، وعندما تتوافر في المجتمع القوانين والآليات التي تضبط التدافع الفكري والسياسي؛ لن يستطيع أحد أن يضر بالمجتمع، ويصبح المجتمع هنا حارس نفسه ضد أية محاولة لتفتيته. وها نحن نرى في بعض الدول الأوروبية كيف تتدافع الأفكار ضمن إطار مقنن. وكيف يصبح التنوع العرقي والديني والطائفي أداة يستثمرها المجتمع ويجعل منها طاقة خلاقة. وعندما تتخلى الدولة عن دورها تسمح لكل من شاء أن يتدخل لإشعال فتيل أزمة، أو إطفائها على طريقته الخاصة، لذلك يظل دور الدولة هنا هو دوراً محورياً يجب أن يستعاد.
بناء مجتمع مدني قوي قادر على أن يساهم مع الدولة في مشروع بناء وطن قوي موحد، من خلال مؤسساته المتنوعة والفعالة. التي تكون صمام أمان يحول دون اشتعال فتيل الأزمات.
الحل العاجل قصير المدى (إطفاء الحرائق)وإلى أن ينتهي هذا العمل الفكري الضخم ويصبح متاحاً في صيغة تناسب كل الشرائح العمرية؛ يتطلب الأمر استراتيجية للتعامل مع الأزمات من إجل إطفاء الحرائق، أو الحيلولة قدر الإمكان دن اشتعالها، وهذا يعني:· إيجاد آلية لرصد التوترات الطارئة وعلاجها، فمثل هذه القضايا قابلة للظهور على السطح في أية لحظة وتصبح صاعقاً قابلاً لتفجير أزمة جديدة، وقد تُحاصر وتحول إلى حالة توتر محدودة الأثر.
· وضع آليات تحكيم لفض المنازعات المختلفة الناشئة عن التوترات الطارئة، ووجود هذه الآليات يعيد التوازن – بدرجة من الدرجات -إلى الخطاب البيني بين أطراف مثل هذه المشاكل المزمنة.
· وضع آليات للتعامل المباشر مع الأزمة في حالة وجودها، عبر استخدام الوسائل السلمية وإحدث ضغط حقيقي على صناع الأزمة.
· استثمار الغالبية العظمى من المسلمين الرافضة لتفكيك بنية المجتمع، غير أنها غالبية غير منظمة وليس لها صوت عال، وإبداع استراتيجية لبناء قدرة هذه الغالبية وتنظيمها للدفاع عن المواطنة ومقاومة أي تهديد تفكيكي للمجتمع من الطرفين.
كانت هذه محاولة لوضع خطوط أولية لمآلات هذا الملف الشائك، وكيفية التعامل معه على المدى القريب والبعيد، حتى ندفع بأمتنا على طريق النهضة، ونقيها مآزق التقهقر إلى الوراء تحت شعارت دينية ومذهبية وعرقية وطائفية.

Monday, November 10, 2008

مَنْ يَهدِمُ القرضاوى ..؟






من يهدم القرضاوى المشروع، القرضاوى الفقه والفكر والتجديد والاجتهاد واللغة والبيان والإبداع .. من يهدم القرضاوى الشخص ؟

من المسئول تحديداً عن محاولة رسم صورة جديدة للشيخ بهذه الملامح، ملامح الفتنة بين أهل الدين الواحد، بإثارة الخلافات الفقهية والمذهبية وحديث الفروع، وملامح الفتنة بالذات والأنا، ثم ملامح الفتنة بالمرأة، ملامح المحب العاشق الواجد الولهان .. من المسئول عن ذلك ؟


من الذى يريد استبدال ملامحه الأصلية التى تكونت فى القرية، والكتّاب، والأزهر، والمعتقل، والمنبر، والجامعة، إلى ملامح أخرى لا تليق بعلمه، ولا مكانته، ولا سنه ..؟

من الذى أخفى كثيراً من مذكراته وأشعاره التى كتبها فى معرض الحكمة والجد والاجتهاد، وأظهر فقط لوسائل الإعلام أبيات الوجد والهوى التى كان يحكى فيها شوقى عن أيام الشباب وميعة الصبا، وسرعان ما تلاها شوقى نفسه بأبيات الندم :


والنفس من خيرها فى خير عافية
والنفس من شرها فى مرتعٍ وَخِمِ
تطغى إذا مُكِنَت من لذة
وهوىطغى الجياد إذا عضت على الشُكُمِ
فمن إذاً الذى أظهر لوسائل الإعلام كلمة الهوى فى سياق الوجد والهيام والغرام والعتب على اللائمين، وحجب عن وسائل الإعلام سياقاً آخر، هو سياق الحكمة والتوجيه والإرشاد ..

والكلمة واحدة ..؟ فى قصيدة واحدة ..!
لم تعهد الأمة الإسلامية نشراً لمذكرات أحد علمائها، كالنشر عن فضيلته هذه الأيام، فلا الشيخ الغزالى، ولا الشيخ الشعراوى، ولا حسن البنا، ولا رشيد رضا، ولا محمد عبده، ولا غيرهم من الأفذاذ على طول العالم الإسلامى وعرضه، نُشر عنه أسراره الشخصية التى يحتفظ بها داخل منـزله، ومشاعره الخاصة التى يسر بها إلى القريبين منه، وتقلباته وأحواله العاطفية التى هى بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، وجميعهم بشر، حدث لهم قطعاً ما حدث للشيخ، إلا أنهم لم يبوحوا بها للإعلام، ولم يحرصوا على إذاعتها للرأى العام، ولم يغافلهم أحدٌ من ذويهم بإذاعتها، فضلاً عن أن تكون مدعومة بالصور الفوتوغرافية التى تريد للقارئ أو للمشاهد أن يستقر فى ذهنه أمر ما، وأن يتحول ذهنه المرسومة فيه صورة القرضاوى القديمة ذات الهيبة والجلال إلى صورة جديدة بملامح جديدة وقسمات جديدة ...
ولو كان قرار نشر جزء من مذكرات الشيخ فى الإعلام، وعلى الملأ، هو قرارٌ نابعٌ من الشيخ نفسه لاختار – بحق – الجزء الخاص بأبنائه الناجحين المجدين، وبناته النابغات الفضليات، وأحفاده الصاعدين الواعدين، وجميعهم بلا استثناء قصص من النجاح والنبوغ والتفوق، بما ينبئ عن أن النجابة أصيلة فى العائلة، موروثة من القدم، ولكن النشر والإعلان – فيما يبدو – ليس بإراداة الشيخ، وليس بقرار من الشيخ، وإنما بإرادة أخرى وقرار آخر، لهدفٍ آخر ..

إن صاحب قرار النشر يريد أن يصنع تاريخ ميلاد جديد للشيخ، هو الأمس، والأمس القريب، لا يعترف بثمانين عاماً قضاها الشيخ بين العلم والعمل والجهاد والمثابرة وتربية وتنشأة أجيال وإقامة أسرة ممتدة، بل عائلة كبيـرة، هى بحق مفخرة لكل من ينتسب إليها، وشرف لكل من يتصل بها، كل ذلك يجب أن يهدر وأن يوضع فى خزائن النسيان، وألا يُعلن عنه، وألا يُنشر، وألا يُقذف به فى صحف الخليج ثم يمرر بطريقة جهنمية إلى الصحف والمجلات المصرية، لأن هذا كله تاريخ لا قيمة له ! القيمة الوحيدة للأمس والأمس القريب فقط ..!

إن القرضاوى يتعرض لهدم عظيم، لقد فشلت جهود الصهاينة فى مواجهة الرجل فى كل ميدان وأضحت فتاواه المُقاوِمة المُجاهِدة هى سندُ الشباب فى فلسطين وغيرها من أنحاء العالم الإسلامى المحتل، ولم يستطع الصهاينة أن يصلوا إلى الرجل، حتى فى لندن وحتى فى أمريكا، ولكن الصهاينة الآن سيفرحون كثيراً لأن صورة الشيخ آخذه فى التبدل والتغير، فهناك من يعمل جاهداً على رسم ملامح جديدة لفضيلته هى ملامح الفتنة، ولأن فضيلته فى المقابل وعلى ما اعتاد عليه طيلة حياته لا يجيد معارك الصغار ولا يواجه السفهاء، إنه قمة لا يحارب إلا قمم، إنه جبل لا يخاطب إلا كبار ..إن آلة هدمٍ تتعقب الشيخ فى كل مكان، وتطارده فى كل موقع، وسوف تخرج له من كل جحر، إنها ليست آلة .. إنها أفعى ..
بقلم ...أ/عصام سلطان

نشرتها جريدة اليوم السابع بتاريخ 11/11/2008

Wednesday, October 8, 2008

الأصولية العلمانية..فهمي هويدي



نشرتها جريدة الخليج الإمارتية..7/10/2008


الأصولية العلمانية التي انتعشت في السنوات الأخيرة لم تنل حقها من الرصد والرد، رغم أنها تطل علينا بين الحين والآخر بأكثر من وجه ولسان، حتى اللغط الدائر حول السنة والشيعة هذه الأيام، لم يفت أبواقها أن تخوض فيه.


(1) لست صاحب مصطلح “الأصولية العلمانية”، الذي اعتبره جديداً بالنسبة لي على الأقل. وهو أكثر تقدماً وأشمل من مصطلح “التطرف العلماني” الذي استخدمته قبل خمس سنوات، وبسببه هاجمني كثيرون من غلاة العلمانيين، واعتبروه محاولة من جانبي لتغيير دفة الحوار الذي كان مثاراً آنذاك حول التطرف الاسلامي، رغم أنني حينذاك كان لي موقفي المعلن في نقد ذلك التطرف، لكني قلت فقط إن الغلو ليس مقصوراً على فئة دون أخرى، ولكنه موجود عند الجميع، بمن فيهم العلمانيون أنفسهم. ولذلك يجب أن نتصدى له على كل الجبهات.

مصطلح الأصولية العلمانية جديد ومثير من زاويتين، الأولى أنه صادر عن اثنين من الباحثين الأمريكيين، والثانية أنه يشير إلى تصور للعلمانية ليس باعتبارها دعوة لاقصاء الدين عن المجال العام من خلال المطالبة بفصل الدين عن الدولة، ولكن باعتبارها فكرة مقدسة وعقيدة، ليست موازية وإنما مخاصمة.

الباحثان الأمريكيان اللذان أشارا إلى المصطلح هما جون اسبوسيتو ومحمد مقتدر خان، وقد أعدا دراسة “حول الدين والسياسة في الشرق الأوسط” نشرت ضمن كتاب “الشرق الأوسط- محاولة للفهم”، أحد إصدارات المشروع القومي للترجمة في مصر وقد تحدثت الدراسة عن أن تحيز نفر من الباحثين إلى العلمانية حول النظرية إلى عقيدة تستند إلى افتراضات مسبقة. وفي رأيهما أنها أصبحت أيديولوجية مسلماً بها. وبمرور الزمن اكتسبت الفكرة قداسة وصارت معتقداً يقوم على الايمان. أشارت الدراسة إلى أن بعض علماء الاجتماع يستشعرون كراهية فطرية وغريزية للدين. وهؤلاء لم يعودوا متحيزين ضد الدين فحسب، وإنما أصبحوا يناصبونه العداء أيضاً.

هذا الايمان الأعمى بالعلمانية لم يمكّن أولئك النفر من الأصوليين من تقدير الدور المهم الذي يضطلع به الدين في الشرق الأوسط، رغم أن مختلف المؤشرات تدل على أنه بصدد أن يصبح القوة الموجهة الرئيسية في ميدان السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين. هكذا قالا. المفارقة أن الكتاب الذي صدر عام ألفين (قامت بتحريره ديبورا جيرنر وترجمه إلى العربية أحمد عبدالحميد) تضمن بحوثاً عدة استهدفت تنوير الأمريكيين وتفهيمهم بصورة متوازنة حقيقة الأوضاع في الشرق الأوسط. لكني وجدته مطلوباً عندنا أيضاً، لأن ذات الصورة الملتبسة عند الأمريكيين بخصوص الاسلام لها نظيرها في حياتنا الثقافية أيضاً.


(2) كشف الأستار عن حقيقة الأصولية العلمانية أسهم فيه أيضاً باحث عراقي متميز هو الأستاذ هادي العلوي في كتابه “المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة”، الذي سجل فيه شهادة استمدت أهميتها ليس فقط من أن الرجل عبر عن رأيه بصراحة كاشفة، ولكن أيضاً لأن صاحبها مثقف له خلفيته الماركسية التي مكنته من أن يحتل موقعاً بارزاً بين القيادات البعثية في العراق. الأمر الذي يعني أنه ليس محسوباً على الحالة الاسلامية من أي باب. في كتابه ذاك الذي طبع في بيروت عام 1998 ذكر العلوي ما نصه: تكتظ الساحة الثقافية بالكتابة عن الاسلام السياسي، أي عن الحركات المسماه أصولية أو سلفية أو دينية. وتشتد وتتكاثف الكتابات حولها إلى حد أن بعض الكتاب ألقى عن نفسه كل عبء غير هذا العبء. وجعل محور نضاله وغايه سعيه أن يتصدى لهذا الاسلام، الذي يزيد خطره على غيره. بل هو الخطر الوحيد الأوحد، بعد أن أعاد هذا البعض ترتيب قائمة “الأعداء” لتشتغل بالاسلام، حيث يصبح أعداء الأمس أحباباً.. فلم تعد الرأسمالية الاحتكارية وغرستها الرأسمالية الكولونيالية، ولا الاستعمار ولا سليلته “إسرائيل” من بين الأعداء. بل هم في نهاية الأمر حلفاء في هذه الحرب المصيرية على الاسلام.

في هذا الصدد ذكر الكاتب أن الدكتور نصر حامد أبوزيد أعلن لجريدة “الاهالي” إبان العدوان “الاسرائيلي” - الأمريكي على لبنان أنه يجب عدم استنكار العدوان، لأنه يعني الوقوف مع حزب الله. وبالتبعية يكون أوثق الحلفاء في هذه الحرب هي أنظمة قطاع الطرق على اختلافها. أضاف إن كاتبة لبنانية من صفوف اليسار قالت في اجتماع مفتوح (حضره الكاتب) إن مشكلتنا ليست الامبريالية ولا أنظمة قطاع الطرق، بل إن الامبريالية مسمى موهوم، وإن الولايات المتحدة تتصرف كدولة مسؤولة عن العالم. وينبغي دعمها لئلا تنهار. وصدق على قولها جميع الجلساء.

أضاف العلوي قائلاً: هكذا يصبح العدو الأوحد لتسعين في المائة من مثقفينا هو الاسلام (السياسي). وهذه الالحاقة للتمويه. فالعدو هو الاسلام نفسه: تاريخه الحضاري وتراثه العظيم ومنجزاته العالمية، التي مهدت بالتكامل مع منجزات الحضارة الصينية لولادة العصر الحديث.

في موضع آخر ذكر الكاتب أن إهدار الجهود الفكرية الضخمة في المناوشة مع الاسلام يصب في المخطط الصهيوني الامبريالي الذي يهدف إلى اشغالنا بحروب جانبية، وإيقاع الخلط في الأولويات والجبهات التي يجب خوض النضال ضدها. وقد حصلت انظمة الفساد على متنفس واسع بانخراط مثقفين يفترض أنهم من صفوف المعارضة في جهازها الاعلامي والأمني، وبما حظيت به من تزكية لدورها في مواجهة المد الديني، بوصفها أنظمة علمانية تكافح في سبيل الفكر التقدمي ولانقاذ الناس من الخرافات. فهي ملاذ الفكر وأداته الضاربة ضد “الظلاميين”.

إن الصراع الحقيقي في الساحات الحقيقية - الكلام لايزال للعلوي- ليس صراعاً فكرياً. ومشكلتنا ليست مشكلة أيديولوجية وما هو مستهدف من قبل العدو ليس الثقافة ولا المثقفين. بل هي أراضينا وثرواتنا وكرامتنا الوطنية. هو صراع بين معتد ومعتدى عليه. بين شعوب وقوى احتلال واستعمار - انتهت الشهادة.


(3) ما سبق اعتبره مفتاحاً لفهم كتابات عديدة تنشرها صحفنا لأناس ركبوا موجة الحرب ضد الإرهاب. واستثمروا أجواء الخصومة الحاصلة بين السلطة وبين بعض الجماعات الاسلامية، وأعلنوها حرباً مفتوحة ضد ما سمي بالاسلام السياسي والأصولية. وعندهم فإن كل من اعتز بدينه ودافع عنه وانحاز إلى نموذجه الحضاري، فلا بد أن يكون أصولياً وامتداداً لحركة الاخوان المسلمين، وخلية متقدمة للاسلام السياسي. وداعياً إلى استنساخ النموذج الايراني في قول ونموذج حركة طالبان في قول آخر. وهو في كل أحواله كائن مشوه، لايؤمن بالدولة المدنية ولايحترم حقوق الانسان. إذا امتدح الديمقراطية فهو منافق ومخادع، وإذا دافع عن التعددية والآخر فهو كذاب، وإذا تحدث في أمور الوطن فهو مدع يخفي أجندته الحقيقية التي يريد بها إقامة الدولة الدينية.

عند هؤلاء، فإن المسلم الملتزم لا يمكن أن يكون سوياً ولا معتدلاً، ولا يمكن أن يكون مكانه خارج التصنيفات التي يحاصرونه فيها. لا هو أصولي ولا إخواني ولا إيراني ولا طالباني. والصورة النمطية التي يريدون ترويجها عنه أنه لا يمكن أن يكون مشغولاً بهموم وطنه وأمته، ومن ثم جزءاً من التيار الوطني العريض، وإنما ينبغي أن يظل محاصراً في قضايا التكفير والحجاب والنقاب وتطبيق الحدود وإقامة الامارة الاسلامية، تمهيداً لاقامة الخلافة وتنصيب الأمامة العظمى.

من مفارقات الأقدار وسخرياتها أن ذلك التنميط الساذج الذي يلح عليه الأصوليون العلمانيون العرب، لم يقع فيه بعض الباحثين الغربيين المعنيين بدراسة المجتمعات الاسلامية. وبين يدي كتاب أصدرته جامعة هارفارد في عام 2003 بعنوان “إسلام بلا خوف” للدكتور ريموند ويليام بيكر أستاذ العلوم السياسية (ترجمته إلى العربية الدكتورة منار الشوربجي ونشر في الأردن هذا العام)، وهو يقدم صورة أكثر أمانة ودقة لمن أسماهم بالاسلاميين الجدد أو الاصلاحيين في مصر، الذين اعتبرهم “قوة تقدمية ومستقلة”. وهو ليس وحيداً في ذلك، فقد سبقه إلى تلك القراءة الأمينة والمنصفة آخرون، في المقدمة منهم البروفيسور جون اسبوسيتو، الذي أصدر هذا العام عدة كتب في ذلك الاتجاه، من بينها مؤلفاته عن الانبعاث الاسلامي، والتهديد الاسلامي بين الحقيقة والوهم، والاسلام والديمقراطية، وأخيراً من يتحدث باسم الإسلام.


(4) ما دعاني إلى ذلك الاستطراد أنه خلال الأسبوعين الأخيرين اللذين أثير خلالهما الجدل في الأوساط الاسلامية حول العلاقات بين الشيعة والسنة، خاض نفر من الأصوليين العلمانيين في الموضوع. ومنهم من لم ير في ذلك الجدل سوى أنه تعبير عن مأزق بين إسلاميين يقدمون السياسة على الدين، وآخرين يتبنون موقفاً معاكساً. البعض الآخر اعتبر المأزق كاشفاً لموقف الاسلاميين من الحرية الفردية وحق الانسان في الاعتقاد والايمان، الأمر الذي سلط الضوء على “الوجه المقبض والمعتم” لتلك الفئة من المتدينين الذين يدعون دفاعاً عن الاعتدال والديمقراطية والدولة المدنية.... إلخ. الأهم من تهافت الحجج التي وردت في الكتابات والأغاليط التي تخللتها أن إخواننا هؤلاء لم يروا في الحوار الدائر أي وجه إيجابي. لم يرصدوا فيه الشفافية والموضوعية والانطلاق من الحرص على المصالح العليا للأمة. من خلال الحث على الاحتشاد لمواجهة المخاطر التي تتهددها، ممثلة أساساً في الاحتلال “الاسرائيلي” والهيمنة الأمريكية. وهي المسؤولية التي تستدعي إما ترحيل ملف الاختلافات المذهبية أو مناقشتها في حدود دوائر أهل العلم، حتى لا تؤثر في وحدة الصف ولا تؤدي إلى بلبلة وتشتيت الرأي العام.

هذا الحوار الذي تركز حول أولويات المرحلة من وجهة النظر الوطنية، وكيفية إدارة الاختلافات السنية الشيعية، تصيده أولئك البعض واعتبروه مناسبة لمواصلة حملة الاغتيال المعنوي والتعبئة المضادة التي تجاهلت تماماً كل ما قيل عن مصلحة الأمة ودعوات التصدي لأعدائها الحقيقيين. الأمر الذي قدم برهاناً جديداً على أن معركتهم الحقيقية هى مع الشقيق وليست مع العدو، وأن الأول هو الخصم الحقيقي وليس الثاني. إنهم يفضلونها حرباً أهلية لتصفية حسابات الصراع الفكري، غير مبالين بإشعال الحرائق في السفينة التي تقل الجميع وهي تترنح موشكة على الغرق.

Saturday, October 4, 2008

د. حازم الببلاوي يكتب: الأزمة المالية العالمية: محاولة للفهم

د. حازم الببلاوي يكتب: الأزمة المالية العالمية: محاولة للفهم

=============================




يقف العالم مشدوهاً أمام ما يطلق عليه «الأزمة المالية» العالمية، فأكبر اقتصاد في العالم (الولايات المتحدة الأمريكية) مهدد بالانزلاق إلي هاوية الكساد والإفلاس، ومن من؟ من أكبر وأعرق المؤسسات المالية الدولية في أمريكا وأوروبا، فكيف حدث ذلك؟ ولماذا هي «أزمة مالية» أكثر منها «أزمة اقتصادية»؟ فهي أزمة في القطاع المالي ولكنها تهدد بإغراق الاقتصاد بأكمله. فكيف ولماذا؟ كل هذه أسئلة تقلق القارئ العادي الذي يريد أن يفهم. وقد طلب مني الكثيرون أن أحاول أن أقدم تفسيراً مبسطاً يساعد القارئ غير المتخصص علي فهم ما يجري أمامه من أحداث تبدو غير واضحة. ونظراً لأنني أعتقد أن أهم أسباب عدم الفهم ترجع عادة إلي غموض «البدهيات» والمبادئ الأولية لعلم الاقتصاد، فلذلك فلا أجد غضاضة في أن أبدأ بشرح هذه المبادئ الأولية. تتطلب البداية أن نفهم أن هناك تفرقة أساسية بين ما يمكن أن نطلق عليه «الاقتصاد العيني أو الحقيقي» وبين «الاقتصاد المالي». فأما الاقتصاد العيني «وهو ما يتعلق بالأصول العينية Real Assets فهو يتناول كل الموارد الحقيقية التي تشبع الحاجات بطريق مباشر (السلع الاستهلاكية) أو بطريق غير مباشر (السلع الاستثمارية). «فالأصول العينية» هي الأراضي وهي المصانع، وهي الطرق، ومحطات الكهرباء، وهي أيضاً القوي البشرية. وبعبارة أخري هي مجموع السلع الاستهلاكية التي تشبع حاجات الإنسان مباشرة من مأكل وملبس وترفيه ومواصلات وتعليم وخدمات صحية. ولكنها أيضاً تتضمن الأصول التي تنتج هذه السلع (الاستثمارية) من مصانع وأراض زراعية ومراكز للبحوث والتطوير.. إلخ. وهكذا فالاقتصاد العيني أو الأصول العينية هو الثروة الحقيقية التي يتوقف عليها بقاء البشرية وتقدمها. وإذا كان الاقتصاد العيني هو الأساس في حياة البشر وسبيل تقدمهم، فقد اكتشفت البشرية منذ وقت مبكر أن هذا الاقتصاد العيني وحده لا يكفي بل لابد أن يزود بأدوات مالية تسهل عمليات التبادل من ناحية، والعمل المشترك من أجل المستقبل من ناحية أخري. ومن هنا ظهرت الحاجة إلي «أدوات» أو «وسائل» تسهل التعامل في الثروة العينية. لعل أولي صور هذه الأدوات المالية هي ظهور فكرة «الحقوق» علي الثروة العينية. فالأرض الزراعية هي جزء من الثروة العينية وهي التي تنتج المحاصيل الزراعية التي تشبع حاجة الإنسان من المأكل وربما السكن وأحياناً الملبس. ولكنك إذا أردت أن تتصرف في هذه الأرض فإنك لا تحمل الأرض علي رأسك لكي تبيعها أو تؤجرها للغير، وإنما كان لابد للبشرية أن تكتشف مفهوماً جديداً اسمه «حق الملكية» علي هذه الأرض. فهذا «الحق القانوني» يعني أن يعترف الجميع بأنك (المالك) الوحيد صاحب الحق في استغلال هذه الأرض والتصرف فيها. وهكذا بدأ ظهور مفهوم جديد اسمه «الأصول المالية» Financial assets، باعتبارها حقاً علي الثروة العينية. وأصبح التعامل يتم علي «الأصول المالية» باعتبارها ممثلاً للأصول العينية. فالبائع ينقل إلي المشتري حق الملكية، والمشتري تنقل إليه الملكية العينية من المالك القديم بمجرد التعامل في سند الملكية. وأصبح التعامل الذي يتم علي هذه الأصول المالية (سندات الملكية) كافيا لكي تنتقل ملكية الأصول العينية (الأرض) من مالك قديم إلي مالك جديد. ولم يتوقف الأمر علي ظهور أصول مالية بالملكية، بل اكتشفت البشرية أن التبادل عن طريق «المقايضة» ومبادلة سلعة عينية بسلعة عينية أخري أمر معقد ومكلف، ومن ثم ظهرت فكرة «النقود» التي هي أصل مالي، بمعني أنها بمثابة «حق» ليس علي أصل بعينه (أرض معينة أو سلعة معينة) وإنما هي حق علي الاقتصاد العيني كله. فمن يملك نقوداً يستطع أن يبادلها بأي سلعة معروضة في الاقتصاد. أي أن «النقود» أصبحت أصلا ماليا يعطي صاحبه الحق في الحصول علي ما يشاء من الاقتصاد، أي من السلع والخدمات المعروضة في الاقتصاد. والنقود في ذاتها ليست سلعة، فهي لا تشبع الحاجات، فهي لا تؤكل، ولا تشبع حاجة الملبس أو المسكن أو غير ذلك من متاع الحياة، فقط الاقتصاد العيني من سلع وخدمات يسمح بذلك. ولكن النقود باعتبارها حقاً علي الاقتصاد العيني تسمح بإشباع الحاجات الحقيقية بمبادلتها مع الأصول العينية (السلع)، أي أن «النقود» هي أصل مالي أو حق علي الأصول العينية، فهي ممثل عن الاقتصاد العيني، ولكن وجودها والتعامل بها يساعد علي سهولة التبادل والمعاملات في السلع العينية. ولم يتوقف تطور «الأصول المالية» علي ظهور حق الملكية أو ظهور النقود كحقوق مالية علي موارد عينية محددة أو علي الاقتصاد في مجموعه، بل اكتشفت البشرية أيضاً أن الكفاءة الاقتصادية تزداد كلما اتسع حجم المبادلات ولم يعد مقصوراً علي عدد محدود من الأفراد أو القطاعات، فالقابلية للتداول Negotiability ترفع القيمة الاقتصادية للموارد. ومن هنا ظهرت أهمية أن تكون هذه الأصول قابلة للتداول. وبشكل عام تأخذ هذه الأصول المالية عادة أحد شكلين، فهي إما تمثل حق الملكية علي بعض الموارد (أرض زراعية أو مصانع أو غير ذلك) أو تأخذ شكل دائنية علي مدين معين (فرد أو شركة). وقد تطورت أشكال الأصول المالية الممثلة للملكية (الأسهم) مع ظهور الشركات المساهمة، كما تطورت أشكال الأصول المالية الدائنة (أو المديونية) مع تطور الأوراق التجارية والسندات. وهكذا جاء ظهور الأوراق المالية من أسهم وأوراق تجارية وسندات مما زاد من حجم الأصول المالية المتداولة والتي تمثل الثروة العينية للاقتصاد. وساعد وجود هذه الأصول المالية المتنوعة علي انتشار وتوسع الشركات وتداول ملكيتها وقدرتها علي الاستدامة. ولكن الأمر لم يقتصر علي ظهور هذه الأصول المالية الجديدة (أسهم وسندات وأوراق تجارية) بل ساعد علي انتشار تداولها ظهور مؤسسات مالية قوية تصدر هذه الأصول باسمها وحيث تتمتع بثقة الجمهور مما أدي إلي زيادة تداول هذه الأسهم والسندات بين الجمهور. فمن ناحية ظهرت البورصات التي تتداول فيها هذه الأصول المالية مما أعطي المتعاملين درجة من «الثقة» في سلامة هذه الأصول المالية، ومن ناحية أخري فإن المؤسسات المالية الوسيطة (البنوك بوجه خاص) حين تمول الأفراد فإنها تحل، في الواقع، مديونية هذه البنوك التي تتمتع بثقة كبيرة لدي الجمهور محل مديونية عملائها. فالعميل يتقدم للبنك للحصول علي تسهيل أو قرض، ومديونية هذا العميل للبنك تستند إلي ملاءة هذا العميل والثقة فيه، ولكن ما إن يحصل العميل علي تسهيل البنك فإنه يتصرف في هذا التسهيل كما لو كان نقوداً لأن البنوك تتمتع بثقة عامة في الاقتصاد. وهكذا فإن البنوك تحول المديونيات الخاصة للعملاء إلي مديونيات عامة تتمتع بثقة كبيرة لدي الجمهور فيقبل عليها المتعاملون لأنهم يثقون في هذه البنوك. وهكذا لعب القطاع المصرفي - والقطاع المالي بصفة عامة - دوراً هائلاً في زيادة حجم الأصول المالية المتداولة وزيادة الثقة فيها. ومن هنا بدأت بوادر أو بذور الأزمات المالية وهي بدء انقطاع الصلة بين الاقتصاد المالي والاقتصاد العيني. فالتوسع المالي بإصدار أنواع متعددة من الأصول المالية المتنوعة بشكل مستقل عن الاقتصاد العيني وأصبحت للأسواق المالية حياتها الخاصة بعيداً عما يحدث في الاقتصاد العيني.. ومن هنا تظهر حقيقة الأزمة المعاصرة باعتبارها أزمة «مالية» بالدرجة الأولي نجمت عن التوسع الكبير في الأصول المالية علي نحو مستقل ـ إلي حد كبير ـ عما يحدث في «الاقتصاد العيني»، كيف؟ يرجع ذلك إلي المؤسسات المالية التي أسرفت في إصدار الأصول المالية بأكثر من حاجة الاقتصاد العيني، ومع هذا التوسع الكبير في إصدار الأصول المالية، زاد عدد المدينين، وزاد بالتالي حجم المخاطر إذا عجز أحدهم عن السداد، وهناك ثلاثة عناصر متكاملة يمكن الإشارة إليها وتفسر هذا التوسع المجنون في إصدار الأصول المالية. أما العنصر الأول فهو زيادة أحجام المديونية أو ما يطلق عليه اسم الرافعة المالية Leverage، فما هو المقصود بذلك؟ أشرنا إلي أن هناك نوعين من الأصول المالية، أصول تمثل الملكية وأصول تمثل مديونية، أما الأصول التي تمثل الملكية فهي أساساً ملكية الموارد العينية من أراض ومصانع وشركات، وهي تأخذ عادة شكل أسهم، وبالنسبة لهذا الشكل من الأصول المالية فهناك ـ عادة ـ حدود لما يمكن إصداره من أصول للملكية، حقاً أنه يمكن المبالغة بإصدار أسهم بقيم مالية مبالغ فيها عن القيمة الحقيقية للأصول التي تمثلها، ولكن يظل الأمر محدوداً، لأنه يرتبط بوجود هذه الأصول العينية، أما بالنسبة للشكل الآخر للأصول المالية وهو المديونية، فيكاد لا توجد حدود علي التوسع فيها، وقد بالغت المؤسسات المالية في التوسع في هذه الأصول للمديونية، وكانت التجارب السابقة قد فرضت ضرورة وضع حدود علي التوسع في الاقتراض، ومن هنا فقد استقرت المبادئ السليمة للمحاسبة المالية علي ربط حدود التوسع في الاقتراض بتوافر حد أدني من الأصول المملوكة، فالمدين يجب أن يتملك حداً أدني من الثروة حتي يستدين، وأن يتوقف حجم استدانته علي حجم ملكيته للأصول العينية، ولذلك حددت اتفاقية بازل للرقابة علي البنوك حدود التوسع في الإقراض للبنوك بألا تتجاوز نسبة من رأس المال المملوك لهذه البنوك، فالبنك لا يستطيع أن يقرض أكثر من نسبة محددة لما يملكه من رأسمال واحتياطي وهو ما يعرف بالرافعة المالية. ورغم أن البنوك المركزية تراقب البنوك التجارية في ضرورة احترام هذه النسب، فإن ما يعرف باسم بنوك الاستثمار في الولايات المتحدة لا يخضع لرقابة البنك المركزي، ومن هنا توسعت بعض هذه البنوك في الإقراض لأكثر من ستين ضعف حجم رؤوس أموالها كما في حالة UBS، ويقال إن الوضع بالنسبة لبنك Lyman كان أكبر، وهذه الزيادة الكبيرة في الاقتراض تعني مزيداً من المخاطر إذا تعرض بعض المدينين لمشكلة في السداد كما حدث بالنسبة للأزمة العقارية، كما سنشير. ولكن لماذا تتوسع المؤسسات المالية في الإقراض والاقتراض؟ لسبب بسيط، الجشع greed، فمزيد من الإقراض والاقتراض يعني مزيداً من الأرباح، أما المخاطر الناجمة عن هذا التوسع في الإقراض فهي لا تهم مجالس الإدارة في معظم هذه البنوك، والتي تهتم فقط بالأرباح قصيرة الأجل، حيث يتوقف عليها حجم مكافآت الإدارة، ومن هنا ظهرت أرباح مبالغ فيها ومكافآت مالية سخية لرؤساء البنوك، وهكذا أدي الاهتمام بالربح في المدة القصيرة إلي تعريض النظام المالي للمخاطر في المدة الطويلة. ولكن التوسع في الإقراض لا يرجع فقط إلي تجاهل اعتبارات الحدود للرافعة المالية لكل مؤسسة، بل إن النظام المالي في الدول الصناعية قد اكتشف وسيلة جديدة لزيادة حجم الإقراض عن طريق اختراع جديد اسمه المشتقات المالية financial derivatives، وهو اختراع يمكن عن طريقه توليد موجات متتالية من الأصول المالية بناء علي أصل واحد كما سيتضح من المثال الذي سوف نعرضه عن تركيز الإقراض علي قطاع أو قطاعات محدودة، فماذا حدث في هذا المجال، وهو المرتبط بما يعرف بأزمة الديون العقارية؟ ولدت الأزمة الأخيرة نتيجة ما أطلق عليه أزمة الرهون العقارية، فالعقارات في أمريكا هي أكبر مصدر للإقراض والاقتراض، فالحلم الأمريكي لكل مواطن هو أن يملك بيته، ولذلك فهو يشتري عقاره بالدين من البنك مقابل رهن هذا العقار، والأزمة بدأت فيما عرف بالرهون العقارية الأقل جودة subprime، فماذا حدث؟ يشتري المواطن بيته بالدين مقابل رهن هذا العقار، ثم ترتفع قيمة العقار، فيحاول صاحب العقار الحصول علي قرض جديد نتيجة ارتفاع سعر العقار، وذلك مقابل رهن جديد من الدرجة الثانية، ومن هنا التسمية بأنها الرهون الأقل جودة، لأنها رهونات من الدرجة الثانية، وبالتالي فإنها معرضة أكثر للمخاطر إذا انخفضت قيمة العقارات، ولكن البنوك لم تكتف بالتوسع في هذه القروض الأقل جودة، بل استخدمت «المشتقات المالية» لتوليد مصادر جديدة للتمويل، وبالتالي للتوسع في الإقراض.. كيف؟ عندما يتجمع لدي البنك محفظة كبيرة من الرهونات العقارية، فإنه يلجأ إلي استخدام هذه «المحفظة من الرهونات العقارية» لإصدار أوراق مالية جديدة يقترض بها من المؤسسات المالية الأخري بضمان هذه المحفظة، وهو ما يطلق عليه التوريق securitization، فكأن البنك لم يكتف بالإقراض الأولي بضمان هذه العقارات، بل أصدر موجة ثانية من الأصول المالية بضمان هذه الرهون العقارية فالبنك يقدم محفظته من الرهونات العقارية كضمان للاقتراض الجديد من السوق عن طريق إصدار سندات أو أوراق مالية مضمونة بالمحفظة العقارية، وهكذا فإن العقار الواحد يعطي مالكه الحق في الاقتراض من البنك، ولكن البنك يعيد استخدام نفس العقار ضمن محفظة أكبر، للاقتراض بموجبها من جديد من المؤسسات المالية الأخري، وهذه هي المشتقات المالية، وتستمر العملية في موجة بعد موجة، بحيث يولد العقار طبقات متتابعة من الإقراض بأسماء المؤسسات المالية واحدة بعد الأخري، هكذا أدي تركز الإقراض في قطاع واحد «العقارات» علي زيادة المخاطر، وساعدت الأدوات المالية الجديدة «المشتقات» علي تفاقم هذا الخطر بزيادة أحجام الإقراض موجة تلو الموجة. ويأتي العنصر الثالث والأخير وهو نقص أو انعدام الرقابة أو الإشراف الكافي علي المؤسسات المالية الوسيطة. حقاً تخضع البنوك التجارية في معظم الدول لرقابة دقيقة من البنوك المركزية، ولكن هذه الرقابة تضعف أو حتي تنعدم بالنسبة لمؤسسات مالية أخري مثل بنوك الاستثمار وسماسرة الرهون العقارية أو الرقابة علي المنتجات المالية الجديدة مثل المشتقات المالية أو الرقابة علي الهيئات المالية التي تصدر شهادات الجدارة الائتمانية، وبالتالي تشجع المستثمرين علي الإقبال علي الأوراق المالية. وقد تكاتفت هذه العناصر علي خلق هذه الأزمة المالية، ولم يقتصر أثرها علي التأثير علي القطاع المالي بزيادة حجم المخاطر نتيجة للتوسع المحموم في الأصول المالية، بل إنه هدد أحد أهم عناصر هذا القطاع وهو «الثقة»، فرغم أن العناصر الثلاثة المشار إليها ـ زيادة الاقتراض، وتركيز المخاطر، ونقص الرقابة والإشراف ـ كافية لإحداث أزمة عميقة، فإن الأمور تصبح أكثر خطورة إذا فقدت الثقة أو ضعفت في النظام المالي الذي يقوم علي ثقة الأفراد، ويزداد الأمر تعقيداً نتيجة للتداخل بين المؤسسات المالية في مختلف الدول، فجميع المؤسسات المالية ـ وبلا استثناء ـ تتعامل مع بعضها البعض، وأي مشكلة عويصة تصيب إحدي هذه المؤسسات، لابد أن تنعكس بشكل مضاعف علي بقية النظام المالي العالمي «العولمة». وهكذا نجد أن الأزمة المالية الحالية هي نتيجة للتوسع غير المنضبط في القطاع المالي في الولايات المتحدة ومن ورائه في بقية دول العالم المتقدم، والسؤال: هل يمكن التجاوز عن هذا الاقتصاد المالي بأدواته المتعددة ومؤسساته الكثيرة؟ للأسف لا يمكن. الأصول المالية أصبحت مثل الدورة الدموية في الجسم، فلا يكفي أن يكون في جسم الإنسان أعضاء رئيسية مثل القلب والمعدة والرئتين، بل لابد من دورة ددموية تنقل الغذاء وتطلق الحركة في جسم الإنسان، وهكذا أصبح الاقتصاد لا يكتفي بالمصانع والأراضي الزراعية، بل إن ما يحركها هو أصول مالية مثل الأسهم والسندات والنقود، وهناك الادخار والاستثمار الذي يتحقق من خلال أدوات مالية، ولذلك فإن علاج الأزمة المالية ضروري ولا يمكن تجاهله. والله أعلم.
www.hazembeblawi.com

Friday, July 25, 2008

الإنسان والشيء..آخر ما نشر للدكتور عبد الوهاب المسيري



نحن نعيش في عالم يحولنا إلى أشياء مادية ومساحات لا تتجاوز عالم الحواس الخمس، إذ تهيمن عليه رؤية مادية للكون. ولنضرب مثلاً بـ"التي شيرت" (T-Shirt) الذي يرتديه أي طفل أو رجل. إن الرداء الذي كان يُوظَّف في الماضي لستر عورة الإنسان ووقايته من الحر والبرد، وربما للتعبير عن الهوية، قد وُظِّف في حالة "التي شيرت" بحيث أصبح الإنسان مساحة لا خصوصية لها غير متجاوزة لعالم الحواس والطبيعة/المادة. ثم توظف هذه المساحة في خدمة شركة الكوكاكولا (على سبيل المثال)، وهي عملية توظيف تُفقد المرء هويته وتحيّده بحيث يصبح منتجاً وبائعاً ومستهلكاً، أي أن "التي شيرت" أصبح آلية كامنة من آليات تحويل الإنسان إلى شيء. ويمكن قول الشيء نفسه عن المنزل، فهو ليس بأمر محايد أو بريء، كما قد يتراءى للمرء لأول وهلة، فهو عادةً ما يُجسِّد رؤية للكون تؤثر في سلوك من يعيش فيه وتصبغ وجدانه، شاء أم أبى. فإن قَطَنَ الإنسان المسلم في منزل بُنيَ على الطراز المعماري العربي والإسلامي فلا شك أن هذا سيزيده من ثقة في نفسه واعتزازه بهويته وتراثه. ولكننا لا نرى في كثير من المدن من العالم الإسلامي أي مظاهر أو آثار للرؤية العربية الإسلامية (إلا في المسجد)، وبدلاً من ذلك أصبح المنزل -عملياً وظيفياً- يهدف إلى تحقيق الكفاءة في الحركة والأداء ولا يكترث بالخصوصية، أي أنه مثل "التي شيرت" أصبح هو الآخر خلواً من الشخصية والعمق. وأثاث هذا المنزل عادة وظيفي، يلفظ أي خصوصية باسم الوظيفية والبساطة. ولكن البساطة هنا تعني في الواقع غياب الخصوصية (الرؤية المادية تفضل البساطة على الجمال المركب، ومن هنا عبارة "خليك طبيعي").
ونفس الشيء ينطبق على طعام "التيك أواي" أو السفاري، فهو الآخر يعيد صياغة وجدان الإنسان. الناس هم الذين يعدون طعامهم بأنفسهم، ثم يتناولونه سوياً. هذا ما كان سائداً في كل أرجاء العالم بما في ذلك الغرب.
أما ظاهرة أكل طعام قد تم إعداده من قبل، ويأكله المرء وهو يسير أو يجري، فهذه ظاهرة جديدة على الجنس البشري، ولابد أن نتنبه إلى الرؤية الكامنة وراءها، فهي رؤية تعتمد السرعة والحركة في الحيز المادي، مقياسا وحيدا، وهي بذلك تحوِّل الإنسان إلى كائن نمطي يشبه الآلة. إن هذه الوجبة السريعة الحركية تعني التخلي عن مجموعة ضخمة من القيم الإنسانية المهمة، مثل أن يجلس المرء مع أعضاء أسرته أو أصدقائه في شكل حلقة ليتناول الطعام معهم فيتحدثون في مواضيع شتى، فالإنسان هو من يأنس بغيره. ولعل العبارة العامية المصرية "أكلوا عيش وملح سوا" (أي سوياً) تشير إلى مجموعة القيم هذه. وأنا لست من الغباء بحيث أطالب بتحريم أو تجريم هذه الوجبات، فأنا أدرك تماما ضرورة اللجوء إلى كثير من الإجراءات ذات الطابع المادي (الاقتصادي السياسي) في حياة الإنسان اليومية، والوجبة السريعة كثيرا ما تكون ضرورية، بل وحتمية. ولكن عندما تتحرك هذه الإجراءات المادية إلى المركز وتصبح هي القاعدة والمعيار، نكون قد سقطنا في العلمانية الشاملة. وقد قرأت مؤخراً أن عدد الأقواس الصفراء (علامة ماكدونالد) يفوق عدد الصلبان في العالم الغربي! وما يهمنا في كل هذا أن بعض المنتجات الحضارية التي قد تبدو بريئة (فهي معظمها حلال)، تؤثر في وجداننا وتعيد صياغة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم. وما قولكم في هذه النجمة السينمائية المغمورة (أو الساطعة) التي تحدثنا عن ذكريات طفولتها وفلسفتها في الحياة وعدد المرات التي تزوجت فيها وخبراتها المتنوعة مع أزواجها، ثم تتناقل الصحف هذه الأخبار وكأنها الحكمة كل الحكمة! وقد تحدثت إحداهن مؤخرا عما سمته "الإغراء الراقي"، ما يدل على عمقها الفكري الذي لا يمكن أن تسبر أغواره. أليس هذا أيضاً هيمنة النموذج المادي على الوجدان والأحلام إذ تحوَّلت النجمة إلى مصدر للقيمة وأصبح أسلوب حياتها هو القدوة التي تُحتذى، وأصبحت أقوالها المرجعية النهائية؟ ومع هذا، تُصر بعض الصحف على أن "فلانة" المغنية أو الراقصة أو عارضة الأزياء لا تختلف في أحكامها وحكمتها عن أحكام وحكمة أحكم الحكماء وأعمق الفلاسفة. والمسكينة لا علاقة لها بأي مرجعية ولا أي قيمة ولا أي مطلقية، إذ إن رؤيتها للعالم محصورة بحدود جسدها الذي قد يكون فاتناً، ولكنه -لا شك- محدود ونسبي. كما أن خبراتها مع أزواجها -رغم أنها قد تكون مثيرة- لا تصلح أساساً لرؤية معرفية أخلاقية، إلا إذا كانت رؤية مادية عدمية ترى أن كل الأمور نسبية. وإذا أخذنا الحكمة من أفواه نجمات السينما والراقصات وملكات الجاذبية الجنسية، فستكون حكمة لها طابعها الخاص الذي لا يمكن أن يُوصف بالروحانية أو الأخلاقية أو ما شابه من أوصاف تقليدية عتيقة!
وقد يكون وصف أقوال هذه النجمة بأنها منافية للأخلاق أو للذوق العام وصفاً دقيقاً، ولكنه مع هذا لا يُبيِّن الدور الذي تلعبه النجمة وأفكارها في إعادة صياغة رؤية الإنسان لنفسه وتَصوُّره لذاته وللكون بشكل غير واع، ربما من جانبها ومن جانب المتلقي معا.
ولنتخيل الآن إنساناً يلبس "التي شيرت"، ويسكن في منزل وظيفي بُني ربما على طريقة "البريفاب" (الكتل الصماء سابقة الإعداد)، ويأكل طعاماً وظيفياً (همبورغر- تيك أواي تم طبخه بطريقة نمطية)، وينام على سرير وظيفي ويشرب الكوكاكولا، ويشاهد الإعلانات التجارية التي تغويه بالاستهلاك والمزيد من استهلاك سلع لا يحتاج إليها في المقام الأول، ويعيش في مدينة شوارعها فسيحة عليه أن يجري بسيارته المستوردة بسرعة مائة ميل في الساعة، ويهرع بسيارته من محل عمله إلى محل طعام "التيك أواي" ومنها إلى مركز التسوق الذي يتسلع البشر، ويداوم على مشاهدة الأفلام الأميركية (الإباحية أو غير الإباحية) بشراهة غير مادية، ويسمع أخبار النجوم وفضائحهم، ويدمن تلقي الحكمة من النجمات الساطعات أو المغمورات.. ألن يتحول هذا الإنسان إلى إنسان وظيفي متكيف لا تُوجَد في حياته خصوصية أو أسرار.. إنسان قادر على تنفيذ كل ما يصدر إليه من أوامر دون أن يثير أية تساؤلات أخلاقية أو فلسفية؟ قد يقيم هذا الإنسان الوظيفي الصلاة في مواقيتها، ولكن كل ما حوله يخلق له بيئة معادية لإدراك مفهوم القيمة المتجاوزة لعالم الحواس الخمس وجدواها. لقد سقط الإنسان في المنظومة المادية واخترقته مجموعة من الأحلام والأوهام والرغبات لا يدرك تضميناتها الاجتماعية والأخلاقية، رغم أنها توجِّه وتحدِّد أولوياته دون وعي منه. ونحن حين نتحدث عن الحضارة المادية فنحن عادة ما نتصور أننا نتحدث عن الحضارة الغربية وحدها، وهذا خلل ما بعده خلل، ففي الغرب يوجد كثير من المظاهر الإنسانية المتجاوزة لسطح المادة، ففي الغرب موزارت وبتهوفن والطعام الفرنسي وكثير من المظاهر المحتفظة بأصالتها وخصوصيتها. إن المنتجات المادية الحديثة تتميز بكونها معادية للخصوصية.. ألخصوصية الغربية والخصوصية الإنسانية. ولنقارن موسيقى الديسكو بالموسيقى الكلاسيكية الغربية والعربية، و"التي شيرت" برداء الإنسان الغربي، ستجد أن منتجات هذه الحضارة المادية -التي أسميها "ضد الحضارة"- غير منتمية لأي تشكيل حضاري أو اجتماعي. هي حقا بدأت في الولايات المتحدة لكنها ليست أميركية، لأن الحضارة الأميركية الحقيقية حضارة لها سماتها الفريدة، وهناك تقاليد حضارية أميركية قامت هذه الحضارة الجديدة الضد بتقويضها. ولكن المشكلة أن كل هذه التقاليد وكل هذه الخصوصيات آخذة في التآكل بسبب المد الجارف للحضارة المادية. وهذه الحضارة المادية ليست معادية للشرق وحده، بل هي ظاهرة ورؤية أمسكت بتلابيب العالم شرقه وغربه، شماله وجنوبه، ولا يظنن أحد أننا بمأمن منها ومن عدميتها وعدائها للإنسان.
كل هذا مقدمة لما حدث في عالم الرياضة. إن الرؤية المادية قد تغلغلت في كل مجالات الحياة. خذ على سبيل المثال عالم الرياضة.. كانت ممارسة الرياضة في الماضي تهدف إلى تهذيب الجسد والنفس وتدريب الناس على التعاون وتسليتهم في الوقت ذاته، بحيث يقضون وقت الفراغ بطريقة متحضرة.
كما أنها على مستوى آخر كانت تدريبا على الصراع الرقيق لتفريغ نزعات البشر العدوانية من خلال قنوات متحضرة.. حينما كنت في مدرسة دمنهور الثانوية كان فريق كرة السلة من أهم الفرق على مستوى الجمهورية، وكنا نصل إلى المركز الأول في بعض البطولات إن لم تخنّي الذاكرة.. ولكن ما أذكره جيداً هو أن الأستاذ الحبروك -المشرف على الفرق الرياضية آنذاك- كان ينصحنا بأنه حينما كان يأتي فريق من المراكز المجاورة لنا -وكانوا عادةً أدنى منا في المستوى- كان يطلب منا ألا نهزمهم هزيمة ساحقة، بل أن ندعهم يحرزون بعض الأهداف حتى لا يشعروا بالإحباط. وكنا نشجع فريق كرة القدم الخاص بدمنهور، ولكننا في الوقت ذاته كنا نشجع "اللعبة الحلوة" بغض النظر عن مصدرها. إن ما كان يهيمن علينا ليس النموذج المادي ولا النموذج الدارويني الصارم حيث يكون كل الناس إما منتصراً أو مهزوما، ولا نموذج السوق وآليات العرض والطلب التي لا تعرف الله أو الإنسان، وإنما نموذج إنساني يقبل حتمية الاختلاف والصراع، ولكنه لا يجعلها مرجعيته النهائية، إذ توجد قيم أخرى مثل التراحم والإيمان بإنسانيتنا المشتركة. ولكن الرياضة انفصلت تدريجيا عن كل هذه القيم لتصبح مرجعية ذاتها، ومنفصلة عن القيمة وتصبح معايير الرياضة رياضية، ويصبح إحراز النصر هو الهدف الأعلى والأسفل والوحيد. ونسمع بعد ذلك عن تفرغ اللاعبين تماما للرياضة واحترافهم. والاحتراف يتناقض تماما مع فكرة التسلية وتزجية وقت الفراغ واللعب بطريقة إنسانية متحضرة، فهي تجعل الرياضة مركز الحياة. قابلت مرة أحد كبار لاعبي كرة القدم في الولايات المتحدة وهي مختلفة عن كرة القدم في بقية العالم، واللاعبون لابد أن يتمتعوا بلياقة بدنية فائقة، وأجسامهم يجب أن تكون ضخمة وعضلاتهم بارزة حتى يمكنهم تحمل الصدمات. المهم.. فتح لي قلبه وتحدث عن بؤسه، وكيف يراقب المدرب كل جوانب حياته العامة والخاصة، فهو يراقب وجباته اليومية ويطلب منه أن يأكل كذا من البروتين وكذا من الخضراوات، كما يراقب حياته العاطفية بل والجنسية، فهو لا يمكنه أن يخرج مع صديقته قبل المباراة بأسبوع، ولا يمكنه مضاجعتها أو مضاجعة زوجته. هو لم يستخدم مصطلح "تشيّؤ"، أي أن يتحول الإنسان إلى شيء، ولكن هذا هو أدق وصف لما حدث له. في المدارس الثانوية بالولايات المتحدة، تقوم فرق كرة القدم بدراسة تكتيكات الفريق الذي سينازلهم من خلال أفلام فيديو يصورونها لمباراة سابقة له، كما يدرسون أداءهم بنفس الطريقة. هل هذا له علاقة بالتسلية واللعب، أم أنه ينبع من نموذج مادي صراعي يجعل الفوز وهزيمة الآخر هو الهدف الوحيد؟ ومن هنا تدفع المكافآت السخية لأعضاء الفريق الفائز. وتنتهي المباريات في الآونة الأخيرة بمعارك يُجرح فيها بعض الناس، بل وقُتل ضابط شرطة في إيطاليا بعد مباراة حامية الوطيس.. كل هذا يعني هيمنة النموذج الصراعي وتراجع النموذج الإنساني التراحمي. وقد اقتحمت أخلاقيات السوق عالم الرياضة فيتم "بيع" لاعب مغربي لنادي إيطالي، ولاعب إيطالي لنادي ليبي وهكذا، وكأننا في سوق النخاسة. ولذا بدلا من الانتماء إلى الوطن والقيم يصبح الانتماء إلى المال، المحرك الأول للإنسان الاقتصادي. ونسمع بعد ذلك عن عدد كبير من الرياضيين يستخدم المخدرات والأدوية المنشطة الممنوعة لتحقيق النصر. ويتقاضى أعضاء الفريق الفائز مبالغ طائلة مكافأة لهم، وهى مكافآت سخية على أدائهم، قد تصل إلى مرتب أستاذ جامعي لعدة سنوات. بل في إحدى الجولات الرياضية حصل كل عضو من أعضاء الفريق الفائز على سيارة "بي.أم.دبليو" وهذه قمة الأحلام العلمانية! أين كل هذا من قيم التعاون والصراع الرقيق والمرجعية الإنسانية؟ لقد اقتحمت اقتصاديات السوق هذا القطاع تماما، وسيطرت عليه قوانين العرض والطلب والمادية وتم تشييء الإنسان ونزع القداسة عنه، وتحوّل إلى مادة استعمالية مرنة ليس فيها من الإنسانية سوى الاسم، أي أن النموذج المادي الصراعي الدارويني قد ساد تماماً. هذه هي مأساة الحضري الذي وقع صريع هذا النموذج، وسلك سلوكاً متسقاً معه، فهاجت الدنيا ضده؟ والسؤال هو: لماذا هذا الهيجان والتهيج؟ أليست المسألة مسألة عرض وطلب لا مسألة انتماء وطني وإنساني؟! وعلى أية حال، بعد الهيجان استقرت الأمور داخل إطار الخصخصة وقبل النادي الأهلي التعويض المالي المناسب عن فقدانه إحدى أشيائه الثمينة.. والله أعلم.

المصدر : الجزيرة نتآخر ما نشر للدكتور عبد الوهاب المسيري 3/7/2008

Sunday, July 13, 2008

قصيدة :"عاطـــل " الشاعر عبدالرحمن يوسف


(عـَاطـِــــل...!)
=======

أرْضـَـى ...
و لا يَـرْضَـى الـزَّمـَـانُ بـِمَــا تـَحَـقـَّــقَ مِــنْ رِضَــايَ
و إنْ ضَـجـِــرْتُ أرَى الـزَّمـَــانَ يـَبـُـثُّ في وَجْهـِـي الـضَّـجـَــرْ ...!
أبـْكِـي ...
و لا يـَبْـكِــي الـزَّمـَــانُ لـِمـَـا تـَسَــرَّبَ مِـنْ بـُكـَائِـيَ خِـفـْيـَـة ً
و إذا ضَحِـكـْــتُ أرَى الـزَّمـَــانَ يـَـرُدُّ ضِحْـكِــي ضـَاحِـكـَــاً
بـِشـَمَـاتـَـةٍ تـُلـْقـَـى بـِوَجْهـِـي كـَالـحَـجَــرْ ...!
أشـْكـُــو ...
و لا أجـِــدُ احْـتِـمَــالاتٍ لإصْـغـَــاءٍ لـِشـَكـْــوايَ الـتـي
مـَا زِلـْـتُ أكـْتـُبـُهَــا و أرْسُـمُـهَــا و أنـْحِـتـُهـَــا و أعـْـزِفـُهَــا
و أُنـْشِـدُهـَـا و أُخـْفِـيـهـَـا و أَنـْشـُرُهـَـا و أُرْسِـلـُهـَـا
و أغـْزِلـُهـَـا و أفـْتِـلـُهـَـا و أُلـْقِـيهـَـا و أحْـمِـلـُهـَــا ...
لأرْجـِـعَ للهُـمُــوم ِ مُـطـَأطِـئـَـاً ...
كـَالطـِّفـْــل ِ عـَــادَ لأُمـِّــهِ دُونَ الحَـليــبِ أو الجُـنـَيـْهِ
و دُونـَمَـا صَـحْــن ٍ مِــنَ الفـُخـَّـار ِفي الـدَّرْبِ انـْكـَسَــرْ ...!
أدْعـُــو ...
و لا رَبٌ يُـسَـايـِرُنـِـي بـِـأيِّ بـِشَــارَةٍ تـُعْـطِــي احْـتِـمـَـالَ إجـَابـَـةٍ
و كـَأنـَّنِـي أدْعُــو بـِمَـا لا يـُسْـتـَجـَــابُ ...
كـَأنَّ إلحَـاحِــي عـَلى رَبـِّـي بَــدَا كـُفـْــرَاً صَريحَــاً بالقـَــدَرْ ...!
* * *
أنـَـا في طـريــق ِ العُـسْــر ِمَــاش ٍ للأبـَــدْ ...
أنـَـا أرْنـَـبُ الأحْــلام ِ في فـَـكِّ الأسـَــدْ ...

أنا لانـْقِــلابِ الحـَـال ِ مَـضـْــرُوبٌ مِـثـَالاً كـَيـْـفَ جَــدَّ ومَـا وَجَــدْ ...!
أنـَا مَـنْ تـَعـَلـَّـمَ – بَـعْـدَمَـا فـَـاتَ الأوانُ – بـأنَّ أرْضَ العـُـرْبِ قـَاسِـيـَـة ٌ
عَـلى مَـنْ في دِرَاسَـتِـهِ اجْـتـَهـَـدْ ...
كـُلُّ الـكـَرَاسِـي وُرِّثـَـتْ في مَـوْطِـنِــي ...
مِـنْ إسـْـتِ شـَاغِـلِـهـَـا ...
إلـى إسـْـتِ الـوَلـَــدْ ...!
و إذا اعْـتـَرَضْـتَ فـَأنـْـتَ مَـوْتـُـورٌ و مَـسْـعـُـورٌ و مَـأجـُــورٌ
و مِـنْ أهـْـل ِ الحَـسَــدْ ...!
و إذا شـَكـَـوْتَ فـَأنـْــتَ حَـتـْمـَـاً كـَـارِهٌ هَــذا الـبَـلـَــدْ ...!
أو أنـْـتَ مَجْـنـُـونٌ يُـعَـانِـي مِـنْ عُـقـَــدْ ...
أنـَا عَـاطـِـلٌ مَـا زِلـْـتُ أمْـشِـي في البَـطـَالـَـةِ دَرْبَ مِـحْـنـَـة ْ ...!
رَقـْـمٌ صَـغِـيــرٌ في الـَمَـلايـيــن ِالتـي تـَحْـيـَـا التـَّعَـطـُّــلَ سِـجْـنَ فِـتـْنـَـة ْ ...!
عـِـبْءٌ عَـلى وَطـَنِــي .../
عـِـبْءٌ عَـلـى أهْـلِـي .../
عـِـبْءٌ عَـلـى ذَاتِـي ... و أسْـوَأُ مَـا رَأتْ عَـيْـنـَـايَ مِـنْ تـَعـَـبِ المَـعِـيـشـَــةِ
أنْ يـُريــحَ الـمَـــرْءُ ذِهْـنـَــه ْ...
جـِسْـمِــي سَـلِـيـــمٌ ...
لـَيـْـسَ مَـطـْبـُوعـَــاً عَـلـى حَـرَكـَاتـِـهِ آثـَـارُ مِـهْـنـَــة ْ...!
دَمْعِـي يَـبـُـوحُ و لا يـَبـُــوحْ ...
و الـصَّـمـْـتُ مَـتـْـنُ الـعَـجـْــز ِ...
تـُعْـجـِـزُهُ الـشـُّــرُوحْ ...
إزْمِـيــلُ يَـأسِـي يُـرْسِــلُ الـضـَّـرَبـَــاتِ يَـهْــدِمُ مَـا بَـنـَيـْــتُ مِــنَ الـصُّــرُوحْ ...
ضَـرَبـَـاتُ ذا الإزْمِـيــل ِ لـَـمْ تـَقـْتـُــلْ طـُمُـوحِــي

إنـَّمـَـا قـَـدْ غـَيـَّــرَتْ نـَــوْعَ الـطـُّمـُـوحْ ...!
عـَـدَدُ الجُــرُوح ِعَـلـى ذِرَاعِــيَ ثـَابـِــتٌ
و إذا تـَأمَّـلـْــتُ اكـْتـَشـَفـْــتُ تـَغـَيـُّــرَاً في عُـمْــق ِهَـاتـيــكَ الجـُـرُوحْ ...!حـُرِّيـَـة ُ الأوْطـَـان ِ، قـَامـُـوسُ الـسِّـيَـاسـَـةِ ، مـَجْـلِــسُ الـنـُّـوَّابِ ،
سِـعـْــرُ الـصَّــرْفِ لـلـــدٌّولار ِ، أمـْــنُ الـدَّوْلـَــةِ الـقـَوْمِــيِّ ،
صَـفـْقـَــاتُ الـسِّــلاح ِ، رُكـُــودُ سـُــوق ِ الـمـَــال ِ، قـَانـُــونُ الـصَّحـَافـَــةِ ،
لـَجْـنـَـة ُ الأحـْــزَابِ ، تـَغـْيـيــرُ الــوِزَارَةِ ، مـَعـْـــرِضٌ لـلـفـَـــنِّ ...
لـَيـْــسَ يـَهـُمـُّنـِــي ... !
لا وَقـْــتَ للأفـْكـَــار ِ ...
للكـَلِـمـَــاتِ ...
لـلأنـْغـَــام ِ ...
لـلـتـَّنـْظِـيــر ِ ...
مُـنـْغـَمِـسـَــاً بـِبَـحْـثِــي عَــنْ مُــذِلٍّ سَــوْفَ يَـقـْبـَلـُنِــي لأُسْـبـُــوع ٍ
يـُمَــارِسُ ذُلــَّــهُ بالـرَّاتِــبِ البـَـادي كـَنـُدْبـَــةِ خـِنـْجـَــر ٍ
قـَــدْ جـُـدِّدَتْ في كـُــلِّ شـَهـْــر ٍ فـَــوْقَ وَجْـهـِـي فـي وُضـُــوحْ ...
أنـَـا لاجـِـئٌ فـي مَـوْطِـنـِــي ...
و مـُخـَيـَّمَـاتِــي تـَمْــلأ ُ الآفـَــاقَ ...
أسْـكـُنـُهـَــا ... و تـَسْـكـُنـُنـِــي ...
أبـيــتُ عَلى الجَــوى مُـسْـتـَعْـمَــرَاً بـِجـُـنـُـــودِ الاسْـتِـقـْــلال ِ
أبْحـَــثُ في دُرُوبِ الأرْض ِ عـَــنْ دَرْبِ الـنـُّـــزُوحْ ...!
* * *
أخـْرَجـْـتُ مِــنْ حَـصَّـالـَتِــي كـُــلَّ الــذي مـُنـْــذُ الطـُّفـُولـَــةِ
لانـْقِـلابـَــاتِ الـزَّمـَـان ِ ذَخـَرْتـُــهُ خـَــوْفَ الـزَّمـَــنْ ...!عِـيـدِيـَّـة َ الأجـْــدَادِ ، جـَائِــزَة َ الـتـَّفـَـوُّق ِ، إرْثَ أمِّـي ،
بَـدْلـَتِـي الـسَّــوْدَاءَ للأفـْــرَاح ِ أو للعِـيــدِ أو للمـَـوْتِ ،
مَـصْــرُوفاً إضَـافـِيـــًا لعُـرْسِــي
( أو لأجْــل ِأبـي إذا احْـتـَـاجَ الــدَّوَاءَ أو الكـَفـَــنْ ) ...!
و حُـلـِـيُّ أخـْتِــي قـَـدْ تـَسـَــرَّبَ جُـلـُّـــهُ ...
لـَـمْ يـَبـْــقَ إلا قِـطـْعـَـة ٌ أو قِـطـْعَـتـَــان ِ بـِدُرْجـِهـَـا لـَـمْ تـُرْتـَهـَــنْ ...
و مَـوَارِدي أنـْفـَقـْتـُهـَــا في الأكـْـل ِ – لا الـدُّخـَّــان ِ–
ثـُـمَّ قـَـدِ اسْـتـَـدَنـْــتُ لـدَفـْـع ِ إيجـَــار ِ الـسَّـكـَــنْ ...
و خـَسِــرْتُ أصْحـَابـِـي بـُعَـيـْــدَ نِـقـَاشِـنـَـا في لـَيْـلـَـةٍ لـَيْــلاءَ ...
عـَــنْ حـُـــبِّ الـوَطـَـــنْ ...!!!
* * *
عُـمْــري فـُصُــولٌ في جَـحِـيـــم ِ المَـحْـرَقـَـة ْ
أو مَـرْكـَــــبٌ مـَــــوْجُ المَـظـَالـِـــــم ِ أغـْرَقــَـــهْ
هـُـوَ مَـنـْطِــقُ الأغـْنـَـى يـُسَـيـِّـــرُ أرْضـَنـَــا
و أنـَــا بعَـقـْلـــي لـَسْــــتُ أفـْهـَـــمُ مَـنـْطِـقــَــهْ !
صَـفـَعـَـاتُ أرْضِـي فـَـوْقَ وَجـْهِ مَـطـَامِـحِـي
جَـعَـلـَــتْ غـَــرَامَ الأرْض ِ مِـثـْـــلَ الهَـرْطـَقـَــة ْ
صَـبـُّــوا طـُمُـوحِــي فـي رَغـِيـــفٍ أسـْـــوَدٍ
و أنـَـــا سَـجـيـــــنٌ فـي حُــــــدُودِ الـبَـوْتـَقــَـــة ْ


شـَكـِّـــي بـكـُـــلِّ مَـوَاهِـبـــــي مُـتـَحَـكـِّـــــمٌ
و عـَلاقـَتِــي بـالنـَّفـْــس ِ تـَنـْقـُصُهـَــا الـثـِّقـَــــة ْ
قـَــدْ كـُنـْـــتُ في يـَـــوْم ٍ أطِـيــرُ مُـحَـلـِّقـَــاً
و اليَــوْمَ تـَهـْــوي فـَــوْقَ رَأسـِــي المِـطـْرَقــَــة ْ
فـَمُـنـِحـْـتُ مَـنـْـعَ الـرُّوح ِ مِـنْ إشْـرَاقهـَـا
و كـَـــــذا طـَليعـَـــــة ُ جـيلِـنـَــــا المُـتـَفـَوِّقــَــــة ْ
عـَـنْ فـُرْصَـةِ العَـمَـل ِانـْبَــرَى مِـذْيَاعُـنـَـا
يُهْـــدي لـَنـَـا شـَمـْــسَ الصَّـبَــاح ِ المُـشـْرقـَــة ْ
وَطـَنٌ بـِحَجـْـم ِ الشـَّمْـس ِ يـَبْـدُو وَاسِـعـَـاً
و أمَـــامَ أحْـلامـِــي تـُــرَى مـَـــنْ ضـَيـَّقـَـــهْ !؟
وَعـَدَتْ حُكـُومَاتـِي .. و تـُخْلـِـفُ وَعْـدَهـَا
كَـعِـصَـابـَـــةٍ مَـنـَعـَــــتْ تـَفـَتـُّـــحَ زَنـْبَـقـَــــة ْ
و أنـَــا فـَرَاشـَـــة ُ مَـوْطِـنـِــي لـَكِـنـَّهـُـــمْ
حَـظـَــرُوا خـُرُوجـِي مِـنْ خـُيـُـوطِ الشـَّرْنـَقـَــة ْ
وطـَنِي هُـمُـومِـي لـَسْـتُ أعـْـرفُ غـَيـْـرَهُ
أحْـيـَـــا بـِــهِ وَحـْــــدي بـِــــرُوح ٍ مُـزْهَـقـَـــة ْ
هَـيْـهَـاتَ أعْـشـَـقُ مَـوْطـِنِـي و ذِرَاعـُهُ
لـَفـَّــتْ عَـلـى الأحْــلام ِ حَـبْــلَ المِـشـْنـَقـَــة ْ !
* * *


أنـَا عَـاطـِـلٌ ...
لـكِـنـَّـنـِــي لـي مِـهْـنـَـة ٌ أتـْقـَنـْتـُهـَــا ...
هِـيَ أنْ أجـُــوبَ الأرْضَ أبْـحـَــثُ عـَــنْ عـَمـَـــلْ ...
و أعـيــشُ في جـُــبِّ الـبـَطـَالـَــةِ مُـرْهـَقـَــاً
و مـِــنَ الـمَـعَـايـِــش ِ مـَـا قـَتــَــلْ ...!
تـَعِــبَ الحِـذَاءُ مـِــنَ الحِجـَـارَةِ عـَبـْــرَ دَرْب ٍ
بـَـاتَ مُـمْـتـَــدَّاً طـَويــلا ً مـثـْـلَ عـُمـْـر ٍ يَـنـْتـَهـِــي في المُـقـْتـَبـَــلْ ...
لـي مِـهْـنـَـة ٌ في كـُــلِّ أُسْـبـُــوع ٍ أُغـَيـِّرُهـَــا ...
تـُغـَيـِّـرُنـِــي ...
و لـَكِــنْ رَغـْــمَ تـَغـْيـيــري الـمُـكـَــرَّر ِ
قـَـدْ سَـئِـمـْــتُ العُـمْــرَ مـِــنْ ضَـغـْـطِ المَـلـَــلْ ...!
أحْـيـَـا عَلـى أمـَــل ِ الـوَظِـيـفــَــةِ يَـائِـسـَــاً
و مِــنَ الـوَظـَائِــفِ مَــا يـَحـُــضُّ عَـلى الـكـَسـَــلْ ...!
لـي مِـهْـنـَــة ٌ مـَــا كـُنـْــتُ أقـْبَـلـُهـَــا إذا خـُيـِّــرْتُ
لـَكِـنـِّــي قـَبـِلـْــتُ تـَدَهـْــوُري خـَلـْــفَ الـمُـسَـمـَّــى بالطـُّمـُــوح ِ
و لـَـمْ أجـِـدْ مـَـا كـَـانَ يـُعـْــرَفُ بالأمـَــلْ ...!
رُوحِــي بـِيـَــوْم ٍ كـَــانَ فيهـَـا بـَعْــضُ أجْـوبـَــةِ الـتـَّسـَــاؤُل ِ
بـَعـْــضُ أشـْعـَــار ِ الـتـَّفـَــاؤُل ِ
لـَكـِــن ِ اليـَــوْمَ اقـْتـَصـَــرْتُ عَـلــى سُــؤَال ٍ وَاحِــدٍ :
أيـْـــنَ الـخـَلــَــلْ !؟
و لـَــرُبَّ مُـشـْكِـلـَــةٍ تـَعِـيـــشُ بأرْضِـنـَــا حَـتـَّــى نـَمـُــوتَ ...
بـِــدُون ِ حـَــلّ ْ ...!
و لـَــرُبَّ مُـحْـتـَــاج ٍ تـَعَـفـَّـــفَ عـَــنْ سُـــؤال ِ الـنـَّـــاس ِ في زُهـْــدٍ

و طـَمـَّـــاع ٍ سـَـــألْ ...!
و لـَــرُبَّ شـَعـْــبٍ يـُنـْتـَعـَـــلْ ...!
و لـَــرُبَّ جَـيـْــش ٍ يـُسْـتـَغـَــلْ ...!
و لـَــرُبَّ جـِيـــل ٍ يـُبْـتـَــذَلْ ...!
و لـَــرُبَّ مَخـْــذُول ٍ خـَــذَلْ ...!
و لـَــرُبَّ أصْـنـَــام ٍ لـَهـَــا سَـجـَــدَ العِـبـَــادُ الـيـَــوْمَ أسْـــوَأ َ مِــنْ "هُـبـَــلْ" ...!
و لـَــرُبَّ قـِصَّــةِ صَـامـِــدٍ لـَكِــنْ بآخِـرِهـَــا قـَــدِ انـْتـَحَـــرَ الـبَـطـَـــلْ ...!
و لـَــرُبَّ صَـحـْــرَاءٍ قـَسَـــتْ حَـتـَّـــى انـْتـَهـَــى صَـبـْـــرُ الـجَـمـَـــلْ ...!
و لـَــرُبَّ رَكـْــبٍ قـَــدْ سَـعـَــى نـَحـْـــوَ الـنـُّجـُـــوم ِ و مـَــا وَصَـــلْ ...!
و لـَــرُبَّ عـُمـْــر ٍ ضـَـاعَ في تـِلــْــكَ الـمَـعـَاهـِـــدِ و الـمـَــدَارس ِ
كـَـــانَ آخـِـــرُهُ الـفـشـَـــلْ ...!
* * *
هَـمِّــــي يـَفـُــــــوقُ تـَمَــــــرُّدَ الهـِمـَــــم ِ
و تـَوَجُّـعـِـــي أقـْـــــوى مِــنَ الـكـَلـِـــــم ِ
لا يـَـأسَ قيــلَ مَـعَ الحَـيـَـاةِ فـَهَــلْ تـُــرَى
قـَـدْ عـَـاشَ مـَـنْ قـَـدْ قـَالـَهـَــا ألـَمِــــي ؟
صَـخـَـبُ الهُـمُـوم ِ يَـهـُـزُّ هَـدْأة َ أحْـرُفِــي
و سِـــوَايَ يـَحْـيـَــا صَـاخِـــبَ الـنـَّغـَــــم ِ
يَا مَـوْطِـنِي .. و قـَـدِ احْـتـَرَقـْتُ بـِصَـرْخـَتِـي
و تـُشِـيــــحُ عـَنـِّــي زَاعِــــمَ الـصَّـمَـــــم ِ

لـَـو أنـَّنِــي قـَصَّــرْتُ عَـبـْــرَ مَـسِـيرَتـِـــي
لـَرَضِـيـــــتُ مِـــنْ دُنـْيـَـــايَ بالعـَــــــدَم ِ
لكـَنـَّنِــــي ذَاكـَـــرْتُ عـَبـْــــرَ تـَعَـلـُّمِــــــي
لأعِـيـــشَ بَـعـْــــدَ الجـِـــدِّ فــي الـنـَّـــدَم ِ
نـَسْــرُ الهـُمـُـوم ِ يـَصِـيـدُ كـُلَّ مَـطـَامِحِـي
و أنـَـــا جـَنـيــــنٌ خـَــــارجَ الـرَّحـِــــــم ِ
النـَّسْـــــرُ يـَأكـُلـُنـِــــي و إنـِّــي سَـائـِــــلٌ
مـَـــاذا يـُحَـرِّكـُــــهُ مـِـــنَ الـنـِّقـَــــــم ِ!؟
النـَّسْــــرُ يـَأكـُلـُنـِـــي .. و إنـِّــي بـَـــاذِلٌ
لـَحْـمِــــي لـَــــهُ فـي غـَايـَـــــةِ الـكـَـــرَم ِ
أنـَــا لـَــنْ أُقـَاوِمـَــهُ .. فـَكـَـمْ شـَاهَـدْتـُــهُ
مُـنـْــذ ُ الطـُّفـُولـَــةَِ سَـاكِـنـَــاً عَـلـَمـِـي !




شعر : عبدالرحمن يوسف



القاهرة
بدأت كتابتها مايو 2007
و انتهت في 9/7/2007
3.00 صباحا




"لاعب النرد " جديد محمود درويش

القدس: يتخذ الشاعر العربي الكبير محمود درويش في آخر قصائده بعنوان "لاعب النرد" قناع "لاعب النرد" الذي "يربح حينا ويخسر حينا" وهو مثل جميع الناس أو "أقل قليلا".
تتناول "لاعب النرد" - وفق صحيفة "القدس" اللندنية - الاحتمالات العديدة التي يمكن أن تأخذ المرء إلى أقدار جديدة، فتميته أو تحييه.
تشبه "لاعب النرد" سيرة ذاتية تستشرف الماضي والحاضر والمستقبل بنفس فلسفي. ونقرأ مقتطفات من القصيدة :





"لاعب النرد "


مَنْ أَنا لأقول لكمْ
ما أَقول لكمْ ؟
وأَنا لم أكُنْ حجراً صَقَلَتْهُ المياهُ
فأصبح وجهاً
ولا قَصَباً ثقَبتْهُ الرياحُ
فأصبح ناياً ...


أَنا لاعب النَرْدِ ،
أَربح حيناً وأَخسر حيناً
أَنا مثلكمْ
أَو أَقلُّ قليلاً ...
وُلدتُ إلي جانب البئرِ
والشجراتِ الثلاثِ الوحيدات كالراهباتْ
وُلدتُ بلا زَفّةٍ وبلا قابلةْ
وسُمِّيتُ باسمي مُصَادَفَةً
وانتميتُ إلي عائلةْ
مصادفَةً ،
ووَرِثْتُ ملامحها والصفاتْ
وأَمراضها :
أَولاً - خَلَلاً في شرايينها
وضغطَ دمٍ مرتفعْ
ثانياً - خجلاً في مخاطبة الأمِّ والأَبِ
والجدَّة - الشجرةْ
ثالثاً - أَملاً في الشفاء من الانفلونزا
بفنجان بابونج ٍ ساخن ٍ
رابعاً - كسلاً في الحديث عن الظبي والقُبَّرة
خامساً - مللاً في ليالي الشتاءْ
سادساً - فشلاً فادحاً في الغناءْ ...
ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ
كانت مصادفةً أَن أكونْ
ذَكَراً ...
ومصادفةً أَن أَري قمراً
شاحباً مثل ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات
ولم أَجتهد
كي أَجدْ
شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً !
كان يمكن أن لا أكونْ
كان يمكن أن لا يكون أَبي
قد تزوَّج أُمي مصادفةً
أَو أكونْ
مثل أُختي التي صرخت ثم ماتت
ولم تنتبه
إلي أَنها وُلدت ساعةً واحدةْ
ولم تعرف الوالدة ْ ...
أَو : كَبَيْض حَمَامٍ تكسَّرَ
قبل انبلاج فِراخ الحمام من الكِلْسِ /
كانت مصادفة أَن أكون
أنا الحيّ في حادث الباصِ
حيث تأخَّرْتُ عن رحلتي المدرسيّة ْ
لأني نسيتُ الوجود وأَحواله
عندما كنت أَقرأ في الليل قصَّةَ حُبٍّ
تَقمَّصْتُ دور المؤلف فيها
ودورَ الحبيب - الضحيَّة ْ
فكنتُ شهيد الهوي في الروايةِ
والحيَّ في حادث السيرِ /
لا دور لي في المزاح مع البحرِ
لكنني وَلَدٌ طائشٌ
من هُواة التسكّع في جاذبيّة ماءٍ
ينادي : تعال إليّْ !
ولا دور لي في النجاة من البحرِ
أَنْقَذَني نورسٌ آدميٌّ
رأي الموج يصطادني ويشلُّ يديّْ
كان يمكن أَلاَّ أكون مُصاباً
بجنِّ المُعَلَّقة الجاهليّةِ
لو أَن بوَّابة الدار كانت شماليّةً
لا تطلُّ علي البحرِ
لو أَن دوريّةَ الجيش لم تر نار القري
تخبز الليلَ
لو أَن خمسة عشر شهيداً
أَعادوا بناء المتاريسِ
لو أَن ذاك المكان الزراعيَّ لم ينكسرْ
رُبَّما صرتُ زيتونةً
أو مُعَلِّم جغرافيا
أو خبيراً بمملكة النمل
أو حارساً للصدي !
مَنْ أنا لأقول لكم
ما أقول لكم
عند باب الكنيسةْ
ولستُ سوي رمية النرد
ما بين مُفْتَرِس ٍ وفريسةْ
ربحت مزيداً من الصحو
لا لأكون سعيداً بليلتيَ المقمرةْ
بل لكي أَشهد المجزرةْ
نجوتُ مصادفةً : كُنْتُ أَصغرَ من هَدَف عسكريّ
وأكبرَ من نحلة تتنقل بين زهور السياجْ
وخفتُ كثيراً علي إخوتي وأَبي
وخفتُ علي زَمَن ٍ من زجاجْ
وخفتُ علي قطتي وعلي أَرنبي
وعلي قمر ساحر فوق مئذنة المسجد العاليةْ
وخفت علي عِنَبِ الداليةْ
يتدلّي كأثداء كلبتنا ...
ومشي الخوفُ بي ومشيت بهِ
حافياً ، ناسياً ذكرياتي الصغيرة عما أُريدُ
من الغد - لا وقت للغد -
أَمشي / أهرولُ / أركضُ / أصعدُ / أنزلُ / أصرخُ / أَنبحُ / أعوي / أنادي / أولولُ / أُسرعُ / أُبطئ / أهوي / أخفُّ / أجفُّ / أسيرُ / أطيرُ / أري / لا أري / أتعثَّرُ / أَصفرُّ / أخضرُّ / أزرقُّ / أنشقُّ / أجهشُ / أعطشُ / أتعبُ / أسغَبُ / أسقطُ / أنهضُ / أركضُ / أنسي / أري / لا أري / أتذكَّرُ / أَسمعُ / أُبصرُ / أهذي / أُهَلْوِس / أهمسُ / أصرخُ / لا أستطيع / أَئنُّ / أُجنّ / أَضلّ / أقلُّ / وأكثرُ / أسقط / أعلو / وأهبط / أُدْمَي / ويغمي عليّ /
ومن حسن حظّيَ أن الذئاب اختفت من هناك
مُصَادفةً ، أو هروباً من الجيش ِ /
لا دور لي في حياتي
سوي أَنني ،
عندما عَـلَّمتني تراتيلها ،
قلتُ : هل من مزيد ؟
وأَوقدتُ قنديلها
ثم حاولتُ تعديلها ...
كان يمكن أن لا أكون سُنُونُوَّةً
لو أرادت لِيَ الريحُ ذلك ،
والريح حظُّ المسافرِ ...
شمألتُ ، شرَّقتُ ، غَرَّبتُ
أما الجنوب فكان قصياً عصيّاً عليَّ
لأن الجنوب بلادي
فصرتُ مجاز سُنُونُوَّةٍ لأحلِّق فوق حطامي
ربيعاً خريفاً ..
أُعمِّدُ ريشي بغيم البحيرةِ
ثم أُطيل سلامي
علي الناصريِّ الذي لا يموتُ
لأن به نَفَسَ الله
والله حظُّ النبيّ ...
ومن حسن حظّيَ أَنيَ جارُ الأُلوهةِ ...
من سوء حظّيَ أَن الصليب
هو السُلَّمُ الأزليُّ إلي غدنا !
مَنْ أَنا لأقول لكم
ما أقولُ لكم ،
مَنْ أنا ؟
كان يمكن أن لا يحالفني الوحيُ
والوحي حظُّ الوحيدين
إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ
علي رُقْعَةٍ من ظلامْ
تشعُّ ، وقد لا تشعُّ
فيهوي الكلامْ
كريش علي الرملِ /
لا دَوْرَ لي في القصيدة
غيرُ امتثالي لإيقاعها :
حركاتِ الأحاسيس حسّاً يعدِّل حساً
وحَدْساً يُنَزِّلُ معني
وغيبوبة في صدي الكلمات
وصورة نفسي التي انتقلت
من أَنايَ إلي غيرها
واعتمادي علي نَفَسِي
وحنيني إلي النبعِ /
لا دور لي في القصيدة إلاَّ
إذا انقطع الوحيُ
والوحيُ حظُّ المهارة إذ تجتهدْ
كان يمكن ألاَّ أُحبّ الفتاة التي
سألتني : كمِ الساعةُ الآنَ ؟
لو لم أَكن في طريقي إلي السينما ...
كان يمكن ألاَّ تكون خلاسيّةً مثلما
هي ، أو خاطراً غامقاً مبهما ...
هكذا تولد الكلماتُ . أُدرِّبُ قلبي
علي الحب كي يَسَعَ الورد والشوكَ ...
صوفيَّةٌ مفرداتي . وحسِّيَّةٌ رغباتي
ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلاَّ
إذا التقتِ الاثنتان ِ :
أَنا ، وأَنا الأنثويَّةُ
يا حُبّ ! ما أَنت ؟ كم أنتَ أنتَ
ولا أنتَ . يا حبّ ! هُبَّ علينا
عواصفَ رعديّةً كي نصير إلي ما تحبّ
لنا من حلول السماويِّ في الجسديّ .
وذُبْ في مصبّ يفيض من الجانبين .
فأنت - وإن كنت تظهر أَو تَتَبطَّنُ -
لا شكل لك
ونحن نحبك حين نحبُّ مصادفةً
أَنت حظّ المساكين /
من سوء حظّيَ أَني نجوت مراراً
من الموت حبّاً
ومن حُسْن حظّي أنيَ ما زلت هشاً
لأدخل في التجربةْ !
يقول المحبُّ المجرِّبُ في سرِّه :
هو الحبُّ كذبتنا الصادقةْ
فتسمعه العاشقةْ
وتقول : هو الحبّ ، يأتي ويذهبُ
كالبرق والصاعقة
للحياة أقول : علي مهلك ، انتظريني
إلي أن تجفُّ الثُمَالَةُ في قَدَحي ...
في الحديقة وردٌ مشاع ، ولا يستطيع الهواءُ
الفكاكَ من الوردةِ /
انتظريني لئلاَّ تفرَّ العنادلُ مِنِّي
فاُخطئ في اللحنِ /
في الساحة المنشدون يَشُدُّون أوتار آلاتهمْ
لنشيد الوداع . علي مَهْلِكِ اختصريني
لئلاَّ يطول النشيد ، فينقطع النبرُ بين المطالع ،
وَهْيَ ثنائيَّةٌ والختامِ الأُحاديّ :
تحيا الحياة !
علي رسلك احتضنيني لئلاَّ تبعثرني الريحُ /
حتي علي الريح ، لا أستطيع الفكاك
من الأبجدية /


لولا وقوفي علي جَبَل ٍ
لفرحتُ بصومعة النسر : لا ضوء أَعلي !
ولكنَّ مجداً كهذا المُتوَّجِ بالذهب الأزرق اللانهائيِّ
صعبُ الزيارة : يبقي الوحيدُ هناك وحيداً
ولا يستطيع النزول علي قدميه
فلا النسر يمشي
ولا البشريُّ يطير
فيا لك من قمَّة تشبه الهاوية
أنت يا عزلة الجبل العالية !
ليس لي أيُّ دور بما كُنْتُ
أو سأكونْ ...
هو الحظُّ . والحظ لا اسم لَهُ
قد نُسَمِّيه حدَّادَ أَقدارنا
أو نُسَمِّيه ساعي بريد السماء
نُسَمِّيه نجَّارَ تَخْتِ الوليد ونعشِ الفقيد
نسمّيه خادم آلهة في أساطيرَ
نحن الذين كتبنا النصوص لهم
واختبأنا وراء الأولمب ...
فصدَّقهم باعةُ الخزف الجائعون
وكَذَّبَنا سادةُ الذهب المتخمون
ومن سوء حظ المؤلف أن الخيال
هو الواقعيُّ علي خشبات المسارح ِ /
خلف الكواليس يختلف الأَمرُ
ليس السؤال : متي ؟
بل : لماذا ؟ وكيف ؟ وَمَنْ
مَنْ أنا لأقول لكم
ما أقول لكم ؟
كان يمكن أن لا أكون
وأن تقع القافلةْ
في كمين ، وأن تنقص العائلةْ
ولداً ،
هو هذا الذي يكتب الآن هذي القصيدةَ
حرفاً فحرفاً ، ونزفاً ونزفاً
علي هذه الكنبةْ
بدمٍ أسود اللون ، لا هو حبر الغراب
ولا صوتُهُ ،
بل هو الليل مُعْتَصراً كُلّه
قطرةً قطرةً ، بيد الحظِّ والموهبةْ
كان يمكن أن يربح الشعرُ أكثرَ لو
لم يكن هو ، لا غيره ، هُدْهُداً


فوق فُوَهَّة الهاويةْ


ربما قال : لو كنتُ غيري
لصرتُ أنا، مرَّةً ثانيةْ
هكذا أَتحايل : نرسيس ليس جميلاً
كما ظنّ . لكن صُنَّاعَهُ
ورَّطوهُ بمرآته . فأطال تأمُّلَهُ
في الهواء المقَطَّر بالماء ...
لو كان في وسعه أن يري غيره
لأحبَّ فتاةً تحملق فيه ،
وتنسي الأيائل تركض بين الزنابق والأقحوان ...
ولو كان أَذكي قليلاً
لحطَّم مرآتَهُ
ورأي كم هو الآخرون ...
ولو كان حُرّاً لما صار أُسطورةً ...
والسرابُ كتابُ المسافر في البيد ...
لولاه ، لولا السراب ، لما واصل السيرَ
بحثاً عن الماء . هذا سحاب - يقول
ويحمل إبريق آماله بِيَدٍ وبأخري
يشدُّ علي خصره . ويدقُّ خطاه علي الرمل ِ
كي يجمع الغيم في حُفْرةٍ . والسراب يناديه
يُغْويه ، يخدعه ، ثم يرفعه فوق : إقرأ
إذا ما استطعتَ القراءةَ . واكتبْ إذا
ما استطعت الكتابة . يقرأ : ماء ، وماء ، وماء .
ويكتب سطراً علي الرمل : لولا السراب
لما كنت حيّاً إلي الآن /
من حسن حظِّ المسافر أن الأملْ
توأمُ اليأس ، أو شعرُهُ المرتجل
حين تبدو السماءُ رماديّةً
وأَري وردة نَتَأَتْ فجأةً
من شقوق جدارْ
لا أقول : السماء رماديّةٌ
بل أطيل التفرُّس في وردةٍ
وأَقول لها : يا له من نهارْ !
ولاثنين من أصدقائي أقول علي مدخل الليل :
إن كان لا بُدَّ من حُلُم ، فليكُنْ
مثلنا ... وبسيطاً
كأنْ : نَتَعَشَّي معاً بعد يَوْمَيْنِ
نحن الثلاثة ، مُحْتَفلين بصدق النبوءة في حُلْمنا
وبأنَّ الثلاثة لم ينقصوا واحداً
منذ يومين ،
فلنحتفل بسوناتا القمرْ
وتسامُحِ موت رآنا معاً سعداء
فغضَّ النظرْ !
لا أَقول : الحياة بعيداً هناك حقيقيَّةٌ
وخياليَّةُ الأمكنةْ
بل أقول : الحياة ، هنا ، ممكنةْ
ومصادفةً ، صارت الأرض أرضاً مُقَدَّسَةً
لا لأنَّ بحيراتها ورباها وأشجارها
نسخةٌ عن فراديس علويَّةٍ
بل لأن نبيّاً تمشَّي هناك
وصلَّي علي صخرة فبكتْ
وهوي التلُّ من خشية الله
مُغْميً عليه
ومصادفةً ، صار منحدر الحقل في بَلَدٍ
متحفاً للهباء ...
لأن ألوفاً من الجند ماتت هناك
من الجانبين ، دفاعاً عن القائِدَيْنِ اللذين
يقولان : هيّا . وينتظران الغنائمَ في
خيمتين حريرَيتَين من الجهتين ...
يموت الجنود مراراً ولا يعلمون
إلي الآن مَنْ كان منتصراً !
ومصادفةً ، عاش بعض الرواة وقالوا :
لو انتصر الآخرون علي الآخرين
لكانت لتاريخنا البشريّ عناوينُ أُخري
أُحبك خضراءَ . يا أرضُ خضراءَ . تُفَّاحَةً
تتموَّج في الضوء والماء . خضراء . ليلُكِ
أَخضر . فجرك أَخضر . فلتزرعيني برفق...
برفق ِ يَدِ الأم ، في حفنة من هواء .
أَنا بذرة من بذورك خضراء ... /
تلك القصيدة ليس لها شاعر واحدٌ
كان يمكن ألا تكون غنائيَّةَ ...
من أنا لأقول لكم
ما أَقول لكم ؟
كان يمكن أَلاَّ أكون أَنا مَنْ أَنا
كان يمكن أَلاَّ أكون هنا ...
كان يمكن أَن تسقط الطائرةْ
بي صباحاً ،
ومن حسن حظّيَ أَني نَؤُوم الضحي
فتأخَّرْتُ عن موعد الطائرةْ
كان يمكن أَلاَّ أري الشام والقاهرةْ
ولا متحف اللوفر ، والمدن الساحرةْ
كان يمكن ، لو كنت أَبطأَ في المشي ،
أَن تقطع البندقيّةُ ظلِّي
عن الأرزة الساهرةْ
كان يمكن ، لو كنتُ أَسرع في المشي ،
أَن أَتشظّي
وأصبح خاطرةً عابرةْ
كان يمكن ، لو كُنْتُ أَسرف في الحلم ،
أَن أَفقد الذاكرة .
ومن حسن حظِّيَ أَني أنام وحيداً
فأصغي إلي جسدي
وأُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ
فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق
عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً
وأُخيِّب ظنّ العدم
مَنْ أَنا لأخيِّب ظنَّ العدم ؟
مَنْ أنا ؟ مَنْ أنا


لمشاهدة القصيدة :

Sunday, May 25, 2008

عصام سلطان ...محام ضد الفساد


نشرتها جريدة الدستور المصرية فى عددها اليومى بتاريخ 25/5/2008

Tuesday, May 6, 2008

القرضاوي: الجوعى يستحقون الإطعام لا الضرب والاعتقال




cu_no=2&item_no=5889&version=1&template_id=104&parent_id=15
القرضاوي: الجوعى يستحقون الإطعام لا الضرب والاعتقال /موقع القرضاوي/ 20-4-2008
الدوحة
-
انتقد فضيلة العلامة د. يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين تصدي الشرطة بالقوة لمظاهرات الجوعى في بعض الدول وضرب المشاركين فيها بالهراوات والقنابل المسيلة للدموع وسجنهم واعتقالهم، قائلا "إن المشكلات يجب أن تعالج من جذورها".
وقال الشيخ القرضاوي في خطبة الجمعة الماضية التى ألقاها بجامع عمر بن الخطاب بالدوحة معلقا على ظواهر الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات التي نظمت في كثير من الدول العربية في الآونة الأخيرة بسبب غلاء الأسعار والمطالبة بزيادة الأجور: "إن الجائع يستحق الإطعام ولا يستحق الضرب والاعتقال".
واعتبر فضيلة الشيخ أن الاعتصامات والمظاهرات "حق مشروع للجوعى"، وطالب بتدخل الحكومات لوقف ارتفاع الأسعار وحماية الفقراء.
ودعا فضيلة الشيخ "من قلدهم الله زمام المسئولية أن يبحثوا عن حاجات الناس ويفكروا في طريقة معالجتها من جذورها".
غير أنه استدرك مضيفا: "لا نريد اقتصادا موجها مثل الاقتصاد الشيوعي، ولا نريد اقتصادا مستغلا مثل الدول الرأسمالية، نريد اقتصادا وسطا يكبح جماح الارتفاع الجنوني في الأسعار".
الرقابة الشعبية
وأيد الشيخ القرضاوي تدخل بعض الدول لتسعير السلع ومنع الارتفاع غير المنطقي لأسعارها وقال: "لا بد من تدخل الدول والمجتمعات لحماية المستهلكين الضعفاء الفقراء".
وأشاد الشيخ بإنشاء جمعيات حماية المستهلك الضعيف أمام التجار والمنتجين الأقوياء ودعاها للقيام بدورها في الرقابة الشعبية.
وحمل القرضاوى بشدة على التجار الذين يغالون في أسعار السلع ولا يراعون ظروف الفقراء ووصفهم بأنهم "لا يقنعون بقليل ولا يشبعون من كثير"، وحذرهم من أن المغالاة بالأسعار "توجب غضب الله وسخطه".
وفي السياق نفسه لفت الشيخ القرضاوي إلى أن "الإسلام حرم الاحتكار في كافة السلع، وتزداد حرمته في احتكار الأقوات والضروريات".
الجوع والفقر
وخصص الدكتور القرضاوي الجزء الأكبر من خطبته للحديث عن مشكلتي الجوع والفقر، وعن ضرورة سد حاجة الذين يعانون ولا يجدون ما يأكلون.
ووصف الجوع بأنه "كافر"، مشيرا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ منه بقوله: "اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع".
وأكد الشيخ القرضاوي أن شر عقوبتين يعاقب الله بهما المجتمعات المنحرفة هما: الجوع والخوف، مستشهدا بقول الله تعالى: { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
وقال: "إن حرمان الناس من قوت يومهم بأن يصبحوا فلا يجدون خبزا ولا أرزا يسد جوعهم.. فإن ذلك يمثل قضية كبيرة تقوم من أجلها الثورات، وتنقلب من أجلها المجتمعات، وتقلب من أجلها الحكومات".
واستشهد بقول الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري: "عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه".
وشهد عدد من الدول العربية أزمات حادة؛ جراء ارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع الضرورية، وهو ما أدى إلى خروج مظاهرات شعبية احتجاجا على عدم تدخل الحكومات لكبح الغلاء، وتحولت بعض هذه الاحتجاجات إلى مصادمات بين قوات الأمن والمتظاهرين؛ مما أدى إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى.
مترفون وجائعون
وأشار الشيخ القرضاوي إلى وجود خلل في إنتاج وتوزيع واستهلاك الثروة في مجتمعاتنا، وطالب بعلاج هذا الخلل، موضحا أن كل خلل له دواء وله علاج.
وانتقد الشيخ القرضاوي "من ينعمون بما لذ وطاب من الطعام والشراب ومن تتكلف موائدهم آلاف الريالات؛ الذين يستوردون غذاءهم من باريس وعشاءهم من سويسرا، ومن يتفننون في لذات بطونهم ويلقون فائض طعامهم في القمامة، وينسون أن من حولهم من لا يجدون قطعة خبز، وأن هناك أناسا يتضورون ويئنون من الجوع أنين الملسوع، ويبحثون في صناديق القمامة عن لقيمات تسد جوعهم".
التبرع للفلسطينيين
كما استنكر رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في هذا السياق استغلال الضعفاء والفقراء من العمال الكادحين، وانتقد في هذا السياق "الكفلاء في دول الخليج الذين يجلبون عمالا بأرخص الأجور ويستغلونهم وكأنهم ليسوا بشرا".
وانتهز الشيخ القرضاوي فرصة الحديث عن الأمن الغذائي والفقر للتذكير بضرورة التبرع للأشقاء الفلسطينيين عامة، والمحاصرين في غزة خاصة.
وقال: "إنهم يعانون من الجوع القاتل والحصار الإسرائيلي الظالم ولا يجدون مطعما ولا مشربا ولا وقودا ولا دواء. وحث على نصرتهم ومساعدتهم، معتبرا ذلك واجبا على المسلمين، وقال: "لا ينبغى أن نترك إخواننا وحدهم يعانون الحصار وويلاته".
وأشار الشيخ القرضاوي إلى أن 11 جامعة فلسطينية توشك أن تغلق أبوابها لأن طلابها لا يجدون ما يدفعون به الرسوم لجامعاتهم.
ودعا "الشعوب العربية والمسلمة للضغط على الحكام ضغطا سلميا عقلانيا بالحسنى بعيدا عن الشغب حتى يقفوا مع شعب فلسطين ويطالبوا برفع الحصار الظالم عليه".

ليست إضرابات صنعها مدونون‏..‏ بل واقع جديد نواجهه بأساليب قديمة


ليست إضرابات صنعها مدونون‏..‏ بل واقع جديد نواجهه بأساليب قديمة
ملحق لغة العصر -جريدة الأهرام المصرية -6/5/2008

بعيدا عن أحداث المحلة وملابساتها‏...‏ كان لافتا للنظر فيما جري يومي‏6‏ إبريل و‏4‏ مايو وما قبلهما عبر الإنترنت أن بعض أجهزة الدولة تعاملت مع ما حدث علي أنه مجرد تصرفات لبضعة أفراد يمكن القضاء عليهم وإزالتهم من الساحة بإجراءات أمنية قضائية سريعة وينتهي الأمر‏,‏ وهي نظرة خارج السياق بالمرة لكونها تعاملت مع واقع جديد بأدوات بالية وقديمة‏.‏ما حدث ليس مجرد صفحة لمجموعة أفراد علي موقع فيس بوك دعوا من خلالها للإضراب ثم تلاها صفحات ومجموعات أخري بمواقع أخري‏,‏ بل ملمح بسيط من ملامح تغيير عميق يمر به المجتمع المصري ـ شأنه شأن غيره من المجتمعات الأخري ـ بفعل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات التي أصبحت خلال السنوات الأخيرة كجواد جامح ينطلق في البراري بأقصي سرعة لأي اتجاه يريد دون توجيه من أحد وبشكل لا يخلو من التلقائية والفجائيةونجم عنها تأثيرات عريضة النطاق تغلغلت إلي مستويات عميقة في كل المجالات فجعلت المجتمعات تعيش حياة فوارة تتبدل فيها الطريقة التي يحيا بها البشر ويشكلون بها أفكارهم ويمارسون بها أعمالهم ويعبرون ويدافعون بها عن مصالحهم وحقوقهم اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا‏,‏ ومن ثم فإن ما جري في هذين اليومين جزء صغير من سياق أكبر وأعمق لا تصح معالجته باعتباره تصرفات فردية‏,‏ بل يحتاج لأن يرد لسياقه العام المتمثل في ظاهرة الديمقراطية الرقمية وآلياتها الجديدة التي تجسد أرقي مشاهد التأثير السياسي لثورة المعلومات‏,‏ لكونها تعصف بالشكل القديم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم وبالمشهد السياسي برمته وتضربه بشدة ليس في مصر فقط ولكن عالميا‏.‏وظاهرة الديمقراطية الرقمية لم تظهر فجأة أو بالمصادفة‏,‏ بل برزت نتيجة سلسلة طويلة من التطورات التي شهدتها المسيرة الإنسانية‏,‏ فعلي مر التاريخ كانت التفاعلات الاجتماعية والعقائدية والدينية والاقتصادية أشبه بالبوتقة التي تفرز باستمرار الكثير من الظواهر السياسية ذات الآليات والأدوات المختلفة‏,‏ وكان متخصصو وعلماء السياسة يرصدون ما يجري داخل هذه البوتقة وما يطرأ علي خليطها أو مزيجها الداخلي من تطورات‏,‏ ويصيغون ذلك كله في أطر نظرية وعلمية مختلفة‏.‏لكن خلال السنوات الأخيرة تبدل الموقف‏,‏ فمن ناحية بات المشهد السياسي العالمي يموج بتيارات عارمة وشاملة وعنيفة في بعض الأحيان‏,‏ تلح في ضرورة نشر الديمقراطية في شتي بقاع الأرض واعتماد قيمها وآلياتها المختلفة‏,‏ مثل إتاحة مشاركة الشعوب في بناء المؤسسات الحاكمة عبر صناديق اقتراع حرة ونزيهة‏,‏ والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار‏,‏ والحرية الكاملة في التعبير عن الرأي‏,‏ والتقويم الحقيقي للأداء والفعالية في المحاسبة وتصحيح الأخطاء‏..‏ الخومن ناحية أخري بلغت ثورة المعلومات شأوا لم تبلغه من قبل وتمخض عنها أدوات بلا حصر‏,‏ تخصصت في التوليد والتداول الرقمي للمعلومات علي نطاق واسع وبأسعار رخيصة فتحت قنوات للتواصل بين ملايين البشر بصورة غير مسبوقة‏,‏ هذا فضلا عن السهولة الشديدة في استخدامها حتي بالنسبة للأميين والمعاقين‏.‏من هنا تهيأت الفرصة لكي يتلاقي ما هو سياسي متمثلا في الديمقراطية مع ما هو تكنولوجي متمثلا في السيادة الرقمية‏,‏ خاصة وأن الآليات الديمقراطية السابقة أصبحت في حاجة أشد لأدوات جديدة لتفعيلها عمليا وعلي نطاق واسع أمام الجماهير الغفيرة من المواطنين‏,‏ وانتهي الأمر بحدوث تلاحم بين الطرفين‏:‏ الرغبة الجامحة في الديمقراطية مع الثورة الجامحة رقميا في عالم المعلومات‏,‏ فدخلت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كعنصر من عناصر المشهد السياسي العامعنصر يتميز بالفتوة والتأثير المتعاظم علي ما سواه من عناصر أخري‏,‏ ومن ثم كان من الطبيعي أن تتغير المخرجات التي تطفو علي سطح الساحة السياسية لتشمل واقعا جديدا وظواهر وممارسات جديدة لا تتوقف جذورها عند ما هو اجتماعي وسياسي واقتصادي وعقائدي وحسب‏,‏ ولكنها تمتد لتشمل ما هو تكنولوجي بالأساس‏.‏بعبارة أخري نجحت البيئة الرقمية التي أفرزتها ثورة المعلومات في أن توفر للديمقراطية بنية أساسية متكاملة الأركان يمكن أن تتحرك فوقها كل فعاليات وأدوات الممارسة الديمقراطية‏,‏ كإبداء الرأي وممارسة حق التصويت وتنظيم الفعاليات والمظاهرات والإضرابات‏,‏ ونجحت في أن تقدم منظومة قادرة علي تداول المعلومات المستخدمة في الممارسة الديمقراطية بغاية السرعة والنعومة والكفاءة فيما بين الأطراف المشاركة‏,‏ وعلي الاستجابة السريعة للطوارئ والفرص‏,‏ وعلي توفير معلومات ذات قيمة حقيقية بسرعة مطلقة وفي الوقت المناسب لمن يحتاجها سواء داخل المؤسسات السياسية أو بين الجماهير‏,‏ فبدأت كثير من الممارسات الديمقراطية تميل إلي التغير بل وتنشأ منها أشكالا لم تكن موجودة من قبل بسبب القوة الهائلة ورخيصة التكلفة وربما المجانية التي تتيحها التكنولوجيا فيما يتعلق بالتواصل بين البشر‏.‏وهنا برزت مجموعة الأدوات التي سادت مرحلة الحوار البطيء غير اللحظي عبر الانترنت ظهر منها في البداية نظام لوحات النشرات الإلكترونية‏,‏ ثم مجموعات الأخبار والمناقشة‏,‏ والقوائم البريدية والمواقع المجانية والمدونات‏,‏ وهي الأدوات التي شكلت العمود الفقري لعمليات التواصل شبه اللحظي بين مئات الملايين من مستخدمي الشبكة حول العالم‏,‏ ثم المنتديات وغرف الدردشة والتراسل الفوري بالصوت والصورة ونظم التصويت الجماعي والشبكات الاجتماعية التي شكلت مرحلة التواصل اللحظي مستندة لتكنولوجيا الجيل الثاني للويب التي ظهرت أخيرا‏.‏من جانبها استخدمت الأنشطة السياسية والفعاليات الديمقراطية الميدانية ـ كالمظاهرات السلمية والإضرابات وحركات العصيان المدني السلمي‏..‏ألخ ـ مجموعة الأدوات السابقة إما كبنية أساسية وحيوية في عمليات الدعوة والتخطيط والتنظيم والحشد والتنفيذ لهذه الأنشطة حينما تتم ميدانيا بالشوارع والميادين ووسط الجماهير الغفيرة‏,‏ أو في القيام بعمليات الدعوة والتخطيط والتنظيم والحشد ثم تنفيذ هذه الأنشطة والفعاليات إلكترونيا حينما تتم افتراضيا وليس بالميادين والشوارع‏.‏ومع تزايد التوظيف العملي لهذه الأدوات ظهر ما يمكن أن نطلق عليه التوجه للجماهير بشكل رأسي وقطاعي مصغر بديلا عن التوجه الأفقي العريض‏,‏ كما ظهر التوجه نحو اللامركزية بدلا عن المركزية‏,‏ ونحو العالمية علي حساب القوميات المحلية‏,‏ والتوجه إلي تهميش وتحجيم دور العديد من الوسطاء في العملية الديمقراطية وفي مقدمتهم الأحزاب السياسية التقليدية وما يناظرها من هياكل الحكم المصابة بالجمود‏,‏ كما ظهر التوجه نحو إلغاء الخطاب الجمعي والتركيز علي الخطاب المفتت الذي يصل لمستوي مخاطبة كل مواطن علي حدة‏.‏في النهاية تبلور الموقف فيما يعرف بالديمقراطية الرقمية التي يمكن تعريفها بأنها‏'‏ توظيف أدوات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرقمية في توليد وجمع وتصنيف وتحليل ومعالجة ونقل وتداول كل البيانات والمعلومات والمعارف المتعلقة بممارسة قيم الديمقراطية وآلياتها المختلفة‏,‏ بغض النظر عن نوع هذه الديمقراطية وقالبها الفكري ومدي انتشارها وذيوعها ومستوي نضجها وسلامة مقاصدها وفعاليتها في تحقيق أهداف مجتمعها‏'.‏إذن نحن أمام ظاهرة‏'‏ سياسية ـ تكنولوجية‏'‏ لم يصوغها ويتعامل معها علماء الاجتماع والسياسة فقط‏,‏ بل يشاركهم فيها وبقوة علماء ثورة التخزين الرقمي والمتخصصون في بناء وتشغيل شبكات المعلومات وبناء المواقع علي الإنترنت ومحللو نظم المعلومات وفوق كل ذلك مستهلكو المعلومات ومستخدمو شبكاتها الذين هم في الوقت نفسه الجماهير العريضة التي يخاطبها أهل السياسة والحكم‏,‏ ولم يعد غريبا أن نشاهد رجال السياسة وعلماءها وقد تحولوا في كثير من الأحيان إلي مستمعين لعلماء المعلوماتية وهم يبشرون ويشرحون الديمقراطية في صورتها الجديدة المستندة لأدوات التكنولوجيا‏,‏ وكيف ستغير هذه التكنولوجيا علاقة الحاكم بالمحكوم وتدق مسمارا قويا ومهما في نعش صندوق الانتخابات التقليدي وطرق التواصل القديمة‏,‏ ليحل محله مفهوم التعبير عن الرأي وصنع القرار عبر الشبكات‏.‏وعمليا برزت الديمقراطية في بعض البلدان وخطت خطوات جعلتها تشب عن الطوق بينما لا تزال تحبو في بلدان أخري ولم تولد بعد في بلدان ثالثة‏,‏ لكنها في كل الأحوال ظهرت علي الساحة كمركب تتمازج فيه الممارسة السياسية مع الأدوات التكنولوجية علي نحو أصاب فريق من الناس بالانبهار والترحاب وفريق آخر بالتوجس والريبة وفريق ثالث بعدم الفهم‏,‏ وقد انعكس التنوع في مستوي النضج والتفاوت في نوعيات ردود الفعل تجاه طريقة فهم واستيعاب وتعريف الظاهرة‏.‏في ضوء كل ما سبق أقول أننا بصدد واقع جديد يعبر عن قوي جديدة بات لها وزن داخل المجتمع‏,‏ والتوصيف الأقرب للواقع لما حدث عبر الإنترنت قبل وأثناء أحداث‏6‏ إبريل و‏4‏ مايو هو أن الأمر ليس علي الإطلاق مجرد مجموعة أفراد هنا أو هناك تلاقت إراداتهم علي فعل شيء بالمصادفة‏,‏ بل نحن أمام ظهور محسوس لقوي جديدة صاعدة بمجتمعنا تتسم بالانتشار وتزايد التأثير‏,‏ وهي إما نبتت في بيئة ثورة المعلومات أو ولدت في بيئة أخري ثم وجدت في ثورة المعلومات مصدرا غنيا متجددا رحبا تتغذي عليه وتنمو تحت ظلاله وهي تحدث التغيير في شكل وبنيان المجتمع والآليات التي يتفاعل بها‏,‏ وهو تغيير لا أحد يعرف إن كان سيتسمر في الانتشار ببطء وسينضج علي مهل أم سيكتسح ما هو قائم بصورة غير متوقعة‏.‏وليس هناك من سبيل للتعامل مع هذه القوي الجديدة سوي أن يهييء المجتمع القائم بكل هياكله وأجهزته ـ في السلطة وخارجها ـ نفسه ليكون قادرا علي التعامل معها بعيدا عن السطحية والانفعال والأساليب القديمة البالية كما حدث من قبل كثير من أجهزة الدولة‏,‏ لأنها كما قلت قوي جديدة في تفكيرها وآليات عملها ومصادر قوتها وضمانات استمرارها‏..‏ قوي بدأت تنمو وقد ينجح البعض في اعتراضها أو إبطاء حركتها قليلا بإجراءات عنيفة هنا أو هناك‏,‏ لكنها في النهاية قوي غير قابلة للوأد والاستئصال‏,‏ بل قابلة فقط للتعايش والترشيد إذا ما تم التعامل معها علي قاعدة
الفهم والحوار‏..‏ وإلي الأسبوع المقبل‏.

جمال محمد غيطاسghietas@ahram0505.net

د/محمد سليم العوا : مطلوب فقه يلائم بين الإسلام والواقع


جريدة الأهرام المصرية -صفحة الفكر الدينى
6/5/2008