من فضلك قم بزيارة مدونتى "تعالوا "

Monday, November 24, 2008

حديث مآلات الفتنة


لمن ننحاز؟ هل ننحاز إلى السنة أم إلى الشيعة؟ هل ننحاز إلى الشيخ يوسف القرضاوي ومحبيه ونحن منهم، أم إلى ما طرحه الأستاذ فهمي هويدي والدكتور محمد العوا والدكتور طارق البشري ومحبيهم ونحن منهم؟


هذه هي الأسئلة التي دارت في رءوس كثير من الشباب وهو يشهد أحداثاً يخشى أن تقود إلى فتنة كبرى، وكرة تتدحرج وتكبر دون أن يعرف أحد إلى أي مدى ستكبر وكم ستدهس في طريقها، خاصة أن القضية الداخلية بدت أشبه بأن على المرء أن ينحاز إلى أحد المعسكرين ليثبت ولاءه.وسواء كانت الأزمة الأخيرة مبالغاً فيها أو كانت فعلاً تستحق ما رأيناه ونراه؛ ففي تقديري أن هذه الأزمة تمثل لنا فرصة كي نبذل الجهد في فهم الواقع كما هو لا كما نتمناه، ثم تقنين ووضع سبل حضارية للتعامل مع مثل هذه الأزمات، تلك الأزمات المتعلقة بتهديد بنية المجتمعات. فقد يظن البعض أن ما يحدث الآن يدمر فكرة النهضة ويجعل الأمة تيأس من نفسها، بينما أرى في هذا الأمر مقدمات يجب أن تُستثمر للإجابة على سؤال مهم مطروح في قضية النهضة، وهو سؤال العرقيات والمذاهب والطوائف والأديان، وكيف يمكن للمجتمع أن يستوعب كل هذا التنوع؟ ولا تتم نهضة دون وضع أجوبة حقيقية لمثل تلك الأسئلة.. فهل نغتنم الفرصة؟ وهل نؤمن أنه كفانا هروباً من التفكير الجاد في مثل هذه الإشكاليات بحجة عدم إشعالها؟ فمجتمعاتنا الآن في مفترق طرق،بعضها يقود إلى الوحدة والاحتشاد في مشروع النهضة، وأخرى تقود إلى التفتت والتخلف، والبعض يعتقد أن الأزمة هي أزمة سنة وشيعة، لكننا لو أعدنا تصنيف الأزمات الكبرى القابلة للاشتعال في شكل حروب لوجدنا أن التأزمات متنوعة، فعلى الصفحة العرقية هناك تأزم عرب وكرد وفرس وتركمان وبربر. وعلى الصفحة الدينية هناك مسلمون ونصارى ويهود ويزيدية، وعلى الصفحة الإسلامية هناك طائفية تقسيمية سنة وشيعة وإباضة، وعلى صفحة السنة هناك كذلك أهل العقيدة الصحيحة والمشكوك في عقائدهم والمتبرأ منهم، وعلى صفحة أهل العقيدة الصحيحة هناك مذاهب فقهية تطالب بحقها في الاعتراف وتشكو من الإقصاء، وعلى صفحة الحركات الإسلامية هناك مسائل يجب أن تحسم بين المهادنين والجهاديين وما بينهما، مثلما حدث في العراق بين السنة أنفسهم بين أصحاب الخيار السياسي والعسكري، وهناك انقسامات سياسية مثلما هو حادث في فلسطين بين فتح وحماس، ثم أخيراً هناك صفحة الاحتلالات من العراق وفلسطين وأفغانستان... والقائمة تطول، ومقدمات كل مشكلة من هذه المشاكل موجودة وقابلة للتفجير إذا وجد الصاعق المناسب! فماذا ننتظر؟ هل نستعد لمواجهة كل هذه التحديات بحكمة وبصيرة أم نفتح الجراح ولا نداويها؟
القضية مثار الجدل اليوم:والمشكلة الحاضرة اليوم هي مشكلة الشيعة والسنة كما يعطى لها العنوان الآن، ولا أقول أنها بالتحديد هي المشكلة، ولكن هكذا يتم تعريفها، وهؤلاء هم أطرافها، من العراق إلى إيران إلى الكويت إلى دول الخليج إلى لبنان إلى سوريا؛ بل إلى الجاليات في أوروبا، شريط مقلق من التوترات التي لا ينقصها من يواصل صب الزيت على النار! مآلات المشهد كما نقرأها:لو استمر رمي الحطب في النار واستمر التأزم بدخول أطراف لم تكن تعيشه في مأساته فالحرب الأهلية قادمة لا محالة، ومآلاتها معروفه ومقدماتها معروفة، فمشهد استعلاء بعض الأطراف على أخرى يتولد عنه استعداء للآخر وسباب وشتائم، ثم تبدأ الاشتباكات. حتى إذا أكلت الحرب الأخضر واليابس تدخل المجتمع الدولي ليضع الوصاية على هذه المجتمعات التي لم تحسن معالجة نسيجها البيني، وما أمر الهوتو والتوتسي في أفريقيا ببعيد. وعادة ما تعتقد الأطراف المتخاصمة أنها بالعنف ستحل الإشكالية، لكن الحرب بعد أن تنهك الطرفين ويتأكدان أن العنف عاجز عن حل الأزمة؛ يلجئان إلى إيجاد سبل لتقنين التعايش, أي أن الشعوب تحارب في الاقتتال الداخلي لا لكي تنجز بالحرب حلاً، وإنما لتتأكد من عجز العنف عن إبادة الطرف الآخر.وهذا المسار ليس جديداً في العالم، ففي الحروب الدينية في أوروبا كالحروب الصليبية (ضد المسلمين)، والحروب البينية الداخلية (بين مذاهب الدين المسيحي)، استنزفت الحروب البينية أوروبا ما يزيد عن المائة عام وانتهت بمعاهدة فيستفاليا عام 1648 واضعة أساساً جديداً للشرعية الدولية، فاعترفت بالسيادة المطلقة للدولة القومية وعقدت اتفاقيات تعزز التسامح الديني وتناهض الثأر في الممارسات السياسية.وفي المقابل هناك مسار آخر أيضاً مجرب يقوم على فلسفة جديدة وهي التمييز بين التدافع المقبول وغير المقبول، فإن قلنا أن من حق أي صاحب فكرة أن يعبر عنها وينشرها ويبين ميزاتها دون أن يعتدي على الآخرين، عندها يمكن القول أن التدافع مقبول، فهو تدافع أفكار ورؤى.
ما الذي يزعج في الظاهرة؟إن الأمر المزعج ليس دخول أفكار جديدة في بعض المجتمعات التي خلت منها من قبل، فالظاهرة هي سياسية بامتياز، وعند تمييز السياسي عن الديني في هذا المشهد نستطيع أن نحدد ما الذي يزعجنا.. هل هي سياسة الحكومة الإيرانية؟ أم حجج المذهب الشيعي؟فحجج المذهب الشيعي وما يطرحه من شبهات على السنة مدونة منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، وهي لم تتغير منذ ذلك الحين، كذلك الردود الفكرية على تلك الشبهات مدونة منذ القدم.ولقد اعترف الأزهر بصحة التعبد على المذهب الشيعي الجعفري، ولكن ما لم يقله أن الموضوع ليس متعلقاً بالنظرة للفقه بل بالنظرة للسياسة والإمامة، وهنا مكمن المعضلة خاصة في العصر الحديث حيث لم يقنع الشيعة بانتظار المهدي الغائب بل آمن الحركيون منهم بضرورة إعداد المشهد لظهوره وبالتالي برزت فكرة دولة المهدي وجيش المهدي، وهي الفكرة التي أتاحت قدراً من الحركية الجديدة في المذهب وأدت لتوترات على المحور السني الشيعي فكيف يمكن إيجاد معادلة جديدة في ظل المقولات الجديدة؟إن التمييز بين الديني والسياسي يمنحنا خيارات أكثر وفرصاً أفضل لفهم الواقع، فمن الممكن أن نفهم إنزعاج السنة من تحرك الحكومة الإيرانية لتوظيف الحالة الشيعية واستدعائها إلى ساحة الفعل السياسي باعتبارها إحدى أدوات الدولة الإيرانية. وهذه القضية يجب فصلها عن مسألة المذهب الشيعي حتى لا يتحول الحديث إلى الخوف من انتشار مذهب معين، فمعركة مقاومة مد المذاهب معركة فكرية بالدرجة الأولى، ومعركة مقاومة مد النفوذ السياسي للدول واستدعاء الدين لنصرة برامجها هي معركة سياسية بالدرجة الأولى. عندها يمكن الاعتراض على خطورة ممارسات الحكومة الإيرانية على النسيج الاجتماعي وتوجيه النقد لها، وليس الحديث عن الخوف من التشيع أو الحديث الطائفي. وأزمة المذهب الشيعي في المناطق السنية أنه مذهب له رؤية سياسية خاصة، وولاء للدولة الحاضنة (إيران)، فهو ليس خلاف كخلاف الشافعية والمالكية، ولكن الشيعة طائفة لها ولاء وطموح سياسي، يجعل أية دولة تخشى من أن يكون انتشار "الفكر الشيعي"- بلغة السياسة- بمثابة تعدي على سيادتها ورهنها للخارج.أما بالنسبة للظاهرة الدينية في حد ذاتها إذا ميزناها عن الظاهرة السياسية فنحتاج إلى مراكز بحثية لرصد الظاهرة وتقويمها، ويشمل ذلك رصد ما ينتجه الطرفان من منتج ثقافي وتأثيره على النسيج الوطني، هل يؤدي إلى وحدته أم تمزيقه، وتحديد مواطن السلبيات في منتج كل طرف، وتحديد مصادر الدعاية السلبية لدى الطرفين وتحديد المسئولين عنها ووضع استراتيجية للتعامل معهم. أما الآن فهناك ملاءة واسعة تطرح على الجميع، باعتبار أن الكل يقول قولاً واحداً، وأن أحد الطرفين كله يعج بالشياطين، والطرف الآخر تسبح فيه الملائكة، والحقيقة أن كلا الطرفين يعج بالصنفين. وليست هناك شيطانية مطلقة في هذا الطرف أو ذاك.
محاولات علاج المشكلة: لقد مرت الأمة عبر مسارها التاريخي بعدة محاولات للتعامل مع تلك الإشكالية، فنذكر على سبيل المثال:المواجهة الفكرية: من خلال الحجة والحجة المضادة بين السنة والشيعة، وهذا موضوع مطروق تاريخياً، وليست كتابات ابن تيمية في الرد على الشيعة عنا ببعيد، وهو مدخل لم يؤتي ثماره لا بزعزعة هؤلاء أو تحريك هؤلاء من معسكراتهم.
المدخل السياسي: كلقاء ساسة الدول في المحافل والمؤتمرات والحديث عن المصالح المشتركة، وهو مسار أيضاً لم يؤت ثماره.
مدخل التقريب: مثل مؤتمرات التقريب ولقاءات المعتدلين والدعوة إلى تكوين تجمعات تجمع علماء من الطرفين، وقد أخذ أيضاً هذا المدخل مداه خلال العقود الفائتة دون أن نجني مكسباً صلباً بعيداً عن العلاقات الدبلوماسية الهشة.
ترى ما الذي جعل مثل تلك المبادرات تعجز عن إبداع حل لهذا التحدي؟ وما نوع المبادرات المطلوبة مستقبلاً حتى يمكن أن يكون مستقبلنا أفضل؟ وماذا تعنينا تجارب الأمم الأوروبية والأمم الأخرى لحسم النزاع بغير طريق العنف؟ ربما تكون هذه الأسئلة هي محور اهتمام المفكرين والاستراتيجيين في المرحلة الحالية والمقبلة. الخطاب الاستراتيجيأغلب المتحمسين اليوم الداعين لخوض الصراع السني الشيعي ربما لم يتبصروا إلى أن هذه ليست الأزمة الوحيدة؛ بل قد تكون مقدمة لإشعال بقية الأزمات. لذلك يحتاج الأمر إلى روية وتبصر، بعيداً عن الحماس المفرط الذي يعمي العقل، كذلك نوجه نفس الكلمة إلى المغالين في التهوين من شأن ما هو جاري، متبنين خطاب الدبلوماسية الذي لا يقدم حلاً عملياً أيضاً وقد يحمل نفس الخطر الكارثي، فهم بدعوى عدم تفخيخ المجتمع يتجاهلون من يزرعون فيه القنابل.ويمكن القول أن هذه الأزمة وما شاكلها يسهم في إشعالها نوعي الخطاب "الحماسي المفرط" الذي يزج بالناس في حرب مجهولة المصير والبوصلة، وال"الدبلوماسي المميت" الذي يترك أصحاب المعاناة المباشرة بدون توجيه عملي مما يجعلهم يضربون الصفح عن هذا الخطاب المثالي، إننا بحاجة إلى خطاب ثالث وهو الخطاب الاستراتيجي.
نقاط على طريق الاستراتيجيةوإذا كنا نرى أن حل مثل هذه الإشكاليات يتطلب خطاباً استراتيجياً فإننا نذكر هنا بعض النقاط التي يمكن أن تساهم في صياغة هذا الخطاب:· الإنسان حر في اعتناق ما يشاء من أفكار على مستوى الاعتقاد الديني، وليس لأبناء الوطن الواحد أن يواجهوا الفكر إلا بالفكر، لكنه ليس حراً في أن يقدم ولاءه لوطن آخر أو يطعن وحدة الوطن بممارساته. وأي فكر يسعى لتمزيق المجتمع يجب التصدي له بطريقة تكفل وحدة المجتمع، سواء كان ذلك بدعوى سنية أو شيعية أو عرقية..الخ
· تجنب التعميمات القاتلة (كلهم يقولون..كلهم يفعلون) فهي مقولات مضللة، وتسلب المجموعات المعتدلة في الطرفين فرصة القيام بدور عاقل، إذ أنها تضعهم في خانة المعسكر الذي تُصَّوب النار عليه، وبالتالي يلجئون إلى صد العدوان.
· القضية سياسية بامتياز يُستخدم الدين أداة فيها من قبل السياسيين. لذلك عند مواجهتها يجب مواجهتها سياسياً، والساسة يستخدمون رجال الدين –بوعي منهم أو بدون وعي- لتنفيذ مصالح السياسة، فإن رأوا السكوت على الطرف الآخر منعوا كل ما يسيء إليه، وإن رأوا أن المعركة السياسة قد آنت أرخوا لرجال الدين العنان كي يتحدثوا بما شاءوا.
· يرى التيار المعارض للتصعيد أن ضرب الشيعة اليوم يخدم الأجندة الأمريكية والإسرائيلية، وأن الأمة يجب أن تتكتل في مواجهة العدو الواحد. بينما التيار المؤيد للتصعيد يطعن في كل موقف للشيعة يمكن أن يصب في مصلحة الأمة لصد العدوان، فيهونون من الانتصارات، وكلا التيارين يلتبس عليهما أننا قد نؤيد مواقف الحكومة الإيرانية أو حزب الله في مواقف، ونعارضها ونقاومها في مواقف أخرى. أي أن أهل السنة يسعهم أن يقاوموا كل ممارسة شيعية تفتت مجتمعاتهم، ويدعموا كل ممارسة شيعية تحمي لحمة المجتمع. ونفس الأمر في الدول التي بها أغلبية شيعية، من حقهم أن يقاوموا أية ممارسة سنية تهدف إلى تفتيت مجتمعاتهم، ويدعموا كل ممارسة سنية تقوي مجتمعاتهم.فالقضية هنا ليست قضية دينية بقدر ما هي سياسية تضع في الاعتبار الأول وحدة المجتمعات واستقرارها، فإن خرج فريق من السنة يريد أن يفت في عضد مجتمع سني ويمزقه، فعلى المجتمع أن يقاوم هذا الفريق. أي إننا نتحدث هنا عن دعم أو مقاومة ممارسات بغض النظر عن ملة ومذهب صاحبها.
· إذا كان تهديد النسيج الاجتماعي يتطلب مقاومة فيجب تحديد الأدوات المناسبة لتلك المقاومة، بحيث لا تزيد من جراحات المجتمع، أو تدخله في دوامة من الصراعات التي لا تنتهي. فعلى التيار المنادي بالتصعيد أن يحدد إلى أية درجة سيتم التصعيد، فهناك فرق بين "رفع الصوت" وبين "الصراخ"، ما هي الدرجة المطلوبة من الفعل؟ بحيث تعالج الموضوع ولا تؤزمه. فبين إشعال الحرب وبين السكوت والقبول بهيمنة الطرف الآخر سلم واسع من الخيارات فهل اختبرناه؟
· يجب التمييز بين الأصل والاستثناء، فالدولة الحديثة في الغرب تكفل لكل مواطن الحق في أن ينشر فكره من خلال آليات ووسائل سلمية تضع المجتمع في مسار التدافع الفكري المحمود، لكن مجتمعاتنا اليوم تعيش حالة الاستثناء، فما نراه في العراق من احتقان بين السنة والشيعة يفرض على الأمة حالة استثنائية يجعلها تتهيب من أي فكر جديد قد يفتت المجتمع، لذلك يجب أن تضع في قائمة أولوياتها الحيلولة دون تفكك بقية المجتمعات وانقسامها فمنع تفكيك المجتمعات لا يقل أهمية عن صد العدوان الإسرائيلي الأمريكي، ويحتاج إلى استراتيجية مبدعة. وعلى الطرف الآخر حامل الفكر الوافد على المجتمع أن يدرك أنه عليه بدوره أن يحسن اختيار التوقيت، وتقدير الظروف، حتى لا يؤجج الصراع.
نحو استراتيجية عامةأما عن صناعة الاستراتيجية التي تعيد بناء مجتمعاتنا على أسس جديدة ففي تقديري أننا يجب أن نفكر عبر مسارين:الحل البنيوي طويل المدى:ويشمل ثلاثة أمور:المراجعات الفكرية لكل موروثاتنا الدينية والثقافية والتاريخية التي تذكي هذا الصراع، ليس من أجل تصويب أفكار الجيل الحالي من الطرفين الذي يعيثا في الأرض فساداً، ولكن من أجل تأسيس عقول أجيال جديدة يُنتزع منه فتيل الأزمة، أجيال جديدة تعي جيداً كل الأفكار المطروحة في مجتمعها، وتدرك أن تقرير الحقائق يختلف عن تقرير الحقوق، فالمسيحي يعترف بكفره ببعض ما يؤمن به المسلم، والمسلم يعترف بكفره ببعض ما يؤمن به المسيحي، فهذا إقرار بالحقائق، لكن ذلك لا يترتب عليه إهدار للحقوق، أو أن يكون أحدهما مواطناً من الدرجة الثانية.
تأسيس دولة المواطنة والعدل والحرية والمجتمع المترابط القوي، وهي الدولة حاملة المشروع الحضاري التي تحشد المجتمع كله في مسار للفعل، وعندما تتوافر في المجتمع القوانين والآليات التي تضبط التدافع الفكري والسياسي؛ لن يستطيع أحد أن يضر بالمجتمع، ويصبح المجتمع هنا حارس نفسه ضد أية محاولة لتفتيته. وها نحن نرى في بعض الدول الأوروبية كيف تتدافع الأفكار ضمن إطار مقنن. وكيف يصبح التنوع العرقي والديني والطائفي أداة يستثمرها المجتمع ويجعل منها طاقة خلاقة. وعندما تتخلى الدولة عن دورها تسمح لكل من شاء أن يتدخل لإشعال فتيل أزمة، أو إطفائها على طريقته الخاصة، لذلك يظل دور الدولة هنا هو دوراً محورياً يجب أن يستعاد.
بناء مجتمع مدني قوي قادر على أن يساهم مع الدولة في مشروع بناء وطن قوي موحد، من خلال مؤسساته المتنوعة والفعالة. التي تكون صمام أمان يحول دون اشتعال فتيل الأزمات.
الحل العاجل قصير المدى (إطفاء الحرائق)وإلى أن ينتهي هذا العمل الفكري الضخم ويصبح متاحاً في صيغة تناسب كل الشرائح العمرية؛ يتطلب الأمر استراتيجية للتعامل مع الأزمات من إجل إطفاء الحرائق، أو الحيلولة قدر الإمكان دن اشتعالها، وهذا يعني:· إيجاد آلية لرصد التوترات الطارئة وعلاجها، فمثل هذه القضايا قابلة للظهور على السطح في أية لحظة وتصبح صاعقاً قابلاً لتفجير أزمة جديدة، وقد تُحاصر وتحول إلى حالة توتر محدودة الأثر.
· وضع آليات تحكيم لفض المنازعات المختلفة الناشئة عن التوترات الطارئة، ووجود هذه الآليات يعيد التوازن – بدرجة من الدرجات -إلى الخطاب البيني بين أطراف مثل هذه المشاكل المزمنة.
· وضع آليات للتعامل المباشر مع الأزمة في حالة وجودها، عبر استخدام الوسائل السلمية وإحدث ضغط حقيقي على صناع الأزمة.
· استثمار الغالبية العظمى من المسلمين الرافضة لتفكيك بنية المجتمع، غير أنها غالبية غير منظمة وليس لها صوت عال، وإبداع استراتيجية لبناء قدرة هذه الغالبية وتنظيمها للدفاع عن المواطنة ومقاومة أي تهديد تفكيكي للمجتمع من الطرفين.
كانت هذه محاولة لوضع خطوط أولية لمآلات هذا الملف الشائك، وكيفية التعامل معه على المدى القريب والبعيد، حتى ندفع بأمتنا على طريق النهضة، ونقيها مآزق التقهقر إلى الوراء تحت شعارت دينية ومذهبية وعرقية وطائفية.

Monday, November 10, 2008

مَنْ يَهدِمُ القرضاوى ..؟






من يهدم القرضاوى المشروع، القرضاوى الفقه والفكر والتجديد والاجتهاد واللغة والبيان والإبداع .. من يهدم القرضاوى الشخص ؟

من المسئول تحديداً عن محاولة رسم صورة جديدة للشيخ بهذه الملامح، ملامح الفتنة بين أهل الدين الواحد، بإثارة الخلافات الفقهية والمذهبية وحديث الفروع، وملامح الفتنة بالذات والأنا، ثم ملامح الفتنة بالمرأة، ملامح المحب العاشق الواجد الولهان .. من المسئول عن ذلك ؟


من الذى يريد استبدال ملامحه الأصلية التى تكونت فى القرية، والكتّاب، والأزهر، والمعتقل، والمنبر، والجامعة، إلى ملامح أخرى لا تليق بعلمه، ولا مكانته، ولا سنه ..؟

من الذى أخفى كثيراً من مذكراته وأشعاره التى كتبها فى معرض الحكمة والجد والاجتهاد، وأظهر فقط لوسائل الإعلام أبيات الوجد والهوى التى كان يحكى فيها شوقى عن أيام الشباب وميعة الصبا، وسرعان ما تلاها شوقى نفسه بأبيات الندم :


والنفس من خيرها فى خير عافية
والنفس من شرها فى مرتعٍ وَخِمِ
تطغى إذا مُكِنَت من لذة
وهوىطغى الجياد إذا عضت على الشُكُمِ
فمن إذاً الذى أظهر لوسائل الإعلام كلمة الهوى فى سياق الوجد والهيام والغرام والعتب على اللائمين، وحجب عن وسائل الإعلام سياقاً آخر، هو سياق الحكمة والتوجيه والإرشاد ..

والكلمة واحدة ..؟ فى قصيدة واحدة ..!
لم تعهد الأمة الإسلامية نشراً لمذكرات أحد علمائها، كالنشر عن فضيلته هذه الأيام، فلا الشيخ الغزالى، ولا الشيخ الشعراوى، ولا حسن البنا، ولا رشيد رضا، ولا محمد عبده، ولا غيرهم من الأفذاذ على طول العالم الإسلامى وعرضه، نُشر عنه أسراره الشخصية التى يحتفظ بها داخل منـزله، ومشاعره الخاصة التى يسر بها إلى القريبين منه، وتقلباته وأحواله العاطفية التى هى بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، وجميعهم بشر، حدث لهم قطعاً ما حدث للشيخ، إلا أنهم لم يبوحوا بها للإعلام، ولم يحرصوا على إذاعتها للرأى العام، ولم يغافلهم أحدٌ من ذويهم بإذاعتها، فضلاً عن أن تكون مدعومة بالصور الفوتوغرافية التى تريد للقارئ أو للمشاهد أن يستقر فى ذهنه أمر ما، وأن يتحول ذهنه المرسومة فيه صورة القرضاوى القديمة ذات الهيبة والجلال إلى صورة جديدة بملامح جديدة وقسمات جديدة ...
ولو كان قرار نشر جزء من مذكرات الشيخ فى الإعلام، وعلى الملأ، هو قرارٌ نابعٌ من الشيخ نفسه لاختار – بحق – الجزء الخاص بأبنائه الناجحين المجدين، وبناته النابغات الفضليات، وأحفاده الصاعدين الواعدين، وجميعهم بلا استثناء قصص من النجاح والنبوغ والتفوق، بما ينبئ عن أن النجابة أصيلة فى العائلة، موروثة من القدم، ولكن النشر والإعلان – فيما يبدو – ليس بإراداة الشيخ، وليس بقرار من الشيخ، وإنما بإرادة أخرى وقرار آخر، لهدفٍ آخر ..

إن صاحب قرار النشر يريد أن يصنع تاريخ ميلاد جديد للشيخ، هو الأمس، والأمس القريب، لا يعترف بثمانين عاماً قضاها الشيخ بين العلم والعمل والجهاد والمثابرة وتربية وتنشأة أجيال وإقامة أسرة ممتدة، بل عائلة كبيـرة، هى بحق مفخرة لكل من ينتسب إليها، وشرف لكل من يتصل بها، كل ذلك يجب أن يهدر وأن يوضع فى خزائن النسيان، وألا يُعلن عنه، وألا يُنشر، وألا يُقذف به فى صحف الخليج ثم يمرر بطريقة جهنمية إلى الصحف والمجلات المصرية، لأن هذا كله تاريخ لا قيمة له ! القيمة الوحيدة للأمس والأمس القريب فقط ..!

إن القرضاوى يتعرض لهدم عظيم، لقد فشلت جهود الصهاينة فى مواجهة الرجل فى كل ميدان وأضحت فتاواه المُقاوِمة المُجاهِدة هى سندُ الشباب فى فلسطين وغيرها من أنحاء العالم الإسلامى المحتل، ولم يستطع الصهاينة أن يصلوا إلى الرجل، حتى فى لندن وحتى فى أمريكا، ولكن الصهاينة الآن سيفرحون كثيراً لأن صورة الشيخ آخذه فى التبدل والتغير، فهناك من يعمل جاهداً على رسم ملامح جديدة لفضيلته هى ملامح الفتنة، ولأن فضيلته فى المقابل وعلى ما اعتاد عليه طيلة حياته لا يجيد معارك الصغار ولا يواجه السفهاء، إنه قمة لا يحارب إلا قمم، إنه جبل لا يخاطب إلا كبار ..إن آلة هدمٍ تتعقب الشيخ فى كل مكان، وتطارده فى كل موقع، وسوف تخرج له من كل جحر، إنها ليست آلة .. إنها أفعى ..
بقلم ...أ/عصام سلطان

نشرتها جريدة اليوم السابع بتاريخ 11/11/2008