من فضلك قم بزيارة مدونتى "تعالوا "

Friday, July 25, 2008

الإنسان والشيء..آخر ما نشر للدكتور عبد الوهاب المسيري



نحن نعيش في عالم يحولنا إلى أشياء مادية ومساحات لا تتجاوز عالم الحواس الخمس، إذ تهيمن عليه رؤية مادية للكون. ولنضرب مثلاً بـ"التي شيرت" (T-Shirt) الذي يرتديه أي طفل أو رجل. إن الرداء الذي كان يُوظَّف في الماضي لستر عورة الإنسان ووقايته من الحر والبرد، وربما للتعبير عن الهوية، قد وُظِّف في حالة "التي شيرت" بحيث أصبح الإنسان مساحة لا خصوصية لها غير متجاوزة لعالم الحواس والطبيعة/المادة. ثم توظف هذه المساحة في خدمة شركة الكوكاكولا (على سبيل المثال)، وهي عملية توظيف تُفقد المرء هويته وتحيّده بحيث يصبح منتجاً وبائعاً ومستهلكاً، أي أن "التي شيرت" أصبح آلية كامنة من آليات تحويل الإنسان إلى شيء. ويمكن قول الشيء نفسه عن المنزل، فهو ليس بأمر محايد أو بريء، كما قد يتراءى للمرء لأول وهلة، فهو عادةً ما يُجسِّد رؤية للكون تؤثر في سلوك من يعيش فيه وتصبغ وجدانه، شاء أم أبى. فإن قَطَنَ الإنسان المسلم في منزل بُنيَ على الطراز المعماري العربي والإسلامي فلا شك أن هذا سيزيده من ثقة في نفسه واعتزازه بهويته وتراثه. ولكننا لا نرى في كثير من المدن من العالم الإسلامي أي مظاهر أو آثار للرؤية العربية الإسلامية (إلا في المسجد)، وبدلاً من ذلك أصبح المنزل -عملياً وظيفياً- يهدف إلى تحقيق الكفاءة في الحركة والأداء ولا يكترث بالخصوصية، أي أنه مثل "التي شيرت" أصبح هو الآخر خلواً من الشخصية والعمق. وأثاث هذا المنزل عادة وظيفي، يلفظ أي خصوصية باسم الوظيفية والبساطة. ولكن البساطة هنا تعني في الواقع غياب الخصوصية (الرؤية المادية تفضل البساطة على الجمال المركب، ومن هنا عبارة "خليك طبيعي").
ونفس الشيء ينطبق على طعام "التيك أواي" أو السفاري، فهو الآخر يعيد صياغة وجدان الإنسان. الناس هم الذين يعدون طعامهم بأنفسهم، ثم يتناولونه سوياً. هذا ما كان سائداً في كل أرجاء العالم بما في ذلك الغرب.
أما ظاهرة أكل طعام قد تم إعداده من قبل، ويأكله المرء وهو يسير أو يجري، فهذه ظاهرة جديدة على الجنس البشري، ولابد أن نتنبه إلى الرؤية الكامنة وراءها، فهي رؤية تعتمد السرعة والحركة في الحيز المادي، مقياسا وحيدا، وهي بذلك تحوِّل الإنسان إلى كائن نمطي يشبه الآلة. إن هذه الوجبة السريعة الحركية تعني التخلي عن مجموعة ضخمة من القيم الإنسانية المهمة، مثل أن يجلس المرء مع أعضاء أسرته أو أصدقائه في شكل حلقة ليتناول الطعام معهم فيتحدثون في مواضيع شتى، فالإنسان هو من يأنس بغيره. ولعل العبارة العامية المصرية "أكلوا عيش وملح سوا" (أي سوياً) تشير إلى مجموعة القيم هذه. وأنا لست من الغباء بحيث أطالب بتحريم أو تجريم هذه الوجبات، فأنا أدرك تماما ضرورة اللجوء إلى كثير من الإجراءات ذات الطابع المادي (الاقتصادي السياسي) في حياة الإنسان اليومية، والوجبة السريعة كثيرا ما تكون ضرورية، بل وحتمية. ولكن عندما تتحرك هذه الإجراءات المادية إلى المركز وتصبح هي القاعدة والمعيار، نكون قد سقطنا في العلمانية الشاملة. وقد قرأت مؤخراً أن عدد الأقواس الصفراء (علامة ماكدونالد) يفوق عدد الصلبان في العالم الغربي! وما يهمنا في كل هذا أن بعض المنتجات الحضارية التي قد تبدو بريئة (فهي معظمها حلال)، تؤثر في وجداننا وتعيد صياغة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم. وما قولكم في هذه النجمة السينمائية المغمورة (أو الساطعة) التي تحدثنا عن ذكريات طفولتها وفلسفتها في الحياة وعدد المرات التي تزوجت فيها وخبراتها المتنوعة مع أزواجها، ثم تتناقل الصحف هذه الأخبار وكأنها الحكمة كل الحكمة! وقد تحدثت إحداهن مؤخرا عما سمته "الإغراء الراقي"، ما يدل على عمقها الفكري الذي لا يمكن أن تسبر أغواره. أليس هذا أيضاً هيمنة النموذج المادي على الوجدان والأحلام إذ تحوَّلت النجمة إلى مصدر للقيمة وأصبح أسلوب حياتها هو القدوة التي تُحتذى، وأصبحت أقوالها المرجعية النهائية؟ ومع هذا، تُصر بعض الصحف على أن "فلانة" المغنية أو الراقصة أو عارضة الأزياء لا تختلف في أحكامها وحكمتها عن أحكام وحكمة أحكم الحكماء وأعمق الفلاسفة. والمسكينة لا علاقة لها بأي مرجعية ولا أي قيمة ولا أي مطلقية، إذ إن رؤيتها للعالم محصورة بحدود جسدها الذي قد يكون فاتناً، ولكنه -لا شك- محدود ونسبي. كما أن خبراتها مع أزواجها -رغم أنها قد تكون مثيرة- لا تصلح أساساً لرؤية معرفية أخلاقية، إلا إذا كانت رؤية مادية عدمية ترى أن كل الأمور نسبية. وإذا أخذنا الحكمة من أفواه نجمات السينما والراقصات وملكات الجاذبية الجنسية، فستكون حكمة لها طابعها الخاص الذي لا يمكن أن يُوصف بالروحانية أو الأخلاقية أو ما شابه من أوصاف تقليدية عتيقة!
وقد يكون وصف أقوال هذه النجمة بأنها منافية للأخلاق أو للذوق العام وصفاً دقيقاً، ولكنه مع هذا لا يُبيِّن الدور الذي تلعبه النجمة وأفكارها في إعادة صياغة رؤية الإنسان لنفسه وتَصوُّره لذاته وللكون بشكل غير واع، ربما من جانبها ومن جانب المتلقي معا.
ولنتخيل الآن إنساناً يلبس "التي شيرت"، ويسكن في منزل وظيفي بُني ربما على طريقة "البريفاب" (الكتل الصماء سابقة الإعداد)، ويأكل طعاماً وظيفياً (همبورغر- تيك أواي تم طبخه بطريقة نمطية)، وينام على سرير وظيفي ويشرب الكوكاكولا، ويشاهد الإعلانات التجارية التي تغويه بالاستهلاك والمزيد من استهلاك سلع لا يحتاج إليها في المقام الأول، ويعيش في مدينة شوارعها فسيحة عليه أن يجري بسيارته المستوردة بسرعة مائة ميل في الساعة، ويهرع بسيارته من محل عمله إلى محل طعام "التيك أواي" ومنها إلى مركز التسوق الذي يتسلع البشر، ويداوم على مشاهدة الأفلام الأميركية (الإباحية أو غير الإباحية) بشراهة غير مادية، ويسمع أخبار النجوم وفضائحهم، ويدمن تلقي الحكمة من النجمات الساطعات أو المغمورات.. ألن يتحول هذا الإنسان إلى إنسان وظيفي متكيف لا تُوجَد في حياته خصوصية أو أسرار.. إنسان قادر على تنفيذ كل ما يصدر إليه من أوامر دون أن يثير أية تساؤلات أخلاقية أو فلسفية؟ قد يقيم هذا الإنسان الوظيفي الصلاة في مواقيتها، ولكن كل ما حوله يخلق له بيئة معادية لإدراك مفهوم القيمة المتجاوزة لعالم الحواس الخمس وجدواها. لقد سقط الإنسان في المنظومة المادية واخترقته مجموعة من الأحلام والأوهام والرغبات لا يدرك تضميناتها الاجتماعية والأخلاقية، رغم أنها توجِّه وتحدِّد أولوياته دون وعي منه. ونحن حين نتحدث عن الحضارة المادية فنحن عادة ما نتصور أننا نتحدث عن الحضارة الغربية وحدها، وهذا خلل ما بعده خلل، ففي الغرب يوجد كثير من المظاهر الإنسانية المتجاوزة لسطح المادة، ففي الغرب موزارت وبتهوفن والطعام الفرنسي وكثير من المظاهر المحتفظة بأصالتها وخصوصيتها. إن المنتجات المادية الحديثة تتميز بكونها معادية للخصوصية.. ألخصوصية الغربية والخصوصية الإنسانية. ولنقارن موسيقى الديسكو بالموسيقى الكلاسيكية الغربية والعربية، و"التي شيرت" برداء الإنسان الغربي، ستجد أن منتجات هذه الحضارة المادية -التي أسميها "ضد الحضارة"- غير منتمية لأي تشكيل حضاري أو اجتماعي. هي حقا بدأت في الولايات المتحدة لكنها ليست أميركية، لأن الحضارة الأميركية الحقيقية حضارة لها سماتها الفريدة، وهناك تقاليد حضارية أميركية قامت هذه الحضارة الجديدة الضد بتقويضها. ولكن المشكلة أن كل هذه التقاليد وكل هذه الخصوصيات آخذة في التآكل بسبب المد الجارف للحضارة المادية. وهذه الحضارة المادية ليست معادية للشرق وحده، بل هي ظاهرة ورؤية أمسكت بتلابيب العالم شرقه وغربه، شماله وجنوبه، ولا يظنن أحد أننا بمأمن منها ومن عدميتها وعدائها للإنسان.
كل هذا مقدمة لما حدث في عالم الرياضة. إن الرؤية المادية قد تغلغلت في كل مجالات الحياة. خذ على سبيل المثال عالم الرياضة.. كانت ممارسة الرياضة في الماضي تهدف إلى تهذيب الجسد والنفس وتدريب الناس على التعاون وتسليتهم في الوقت ذاته، بحيث يقضون وقت الفراغ بطريقة متحضرة.
كما أنها على مستوى آخر كانت تدريبا على الصراع الرقيق لتفريغ نزعات البشر العدوانية من خلال قنوات متحضرة.. حينما كنت في مدرسة دمنهور الثانوية كان فريق كرة السلة من أهم الفرق على مستوى الجمهورية، وكنا نصل إلى المركز الأول في بعض البطولات إن لم تخنّي الذاكرة.. ولكن ما أذكره جيداً هو أن الأستاذ الحبروك -المشرف على الفرق الرياضية آنذاك- كان ينصحنا بأنه حينما كان يأتي فريق من المراكز المجاورة لنا -وكانوا عادةً أدنى منا في المستوى- كان يطلب منا ألا نهزمهم هزيمة ساحقة، بل أن ندعهم يحرزون بعض الأهداف حتى لا يشعروا بالإحباط. وكنا نشجع فريق كرة القدم الخاص بدمنهور، ولكننا في الوقت ذاته كنا نشجع "اللعبة الحلوة" بغض النظر عن مصدرها. إن ما كان يهيمن علينا ليس النموذج المادي ولا النموذج الدارويني الصارم حيث يكون كل الناس إما منتصراً أو مهزوما، ولا نموذج السوق وآليات العرض والطلب التي لا تعرف الله أو الإنسان، وإنما نموذج إنساني يقبل حتمية الاختلاف والصراع، ولكنه لا يجعلها مرجعيته النهائية، إذ توجد قيم أخرى مثل التراحم والإيمان بإنسانيتنا المشتركة. ولكن الرياضة انفصلت تدريجيا عن كل هذه القيم لتصبح مرجعية ذاتها، ومنفصلة عن القيمة وتصبح معايير الرياضة رياضية، ويصبح إحراز النصر هو الهدف الأعلى والأسفل والوحيد. ونسمع بعد ذلك عن تفرغ اللاعبين تماما للرياضة واحترافهم. والاحتراف يتناقض تماما مع فكرة التسلية وتزجية وقت الفراغ واللعب بطريقة إنسانية متحضرة، فهي تجعل الرياضة مركز الحياة. قابلت مرة أحد كبار لاعبي كرة القدم في الولايات المتحدة وهي مختلفة عن كرة القدم في بقية العالم، واللاعبون لابد أن يتمتعوا بلياقة بدنية فائقة، وأجسامهم يجب أن تكون ضخمة وعضلاتهم بارزة حتى يمكنهم تحمل الصدمات. المهم.. فتح لي قلبه وتحدث عن بؤسه، وكيف يراقب المدرب كل جوانب حياته العامة والخاصة، فهو يراقب وجباته اليومية ويطلب منه أن يأكل كذا من البروتين وكذا من الخضراوات، كما يراقب حياته العاطفية بل والجنسية، فهو لا يمكنه أن يخرج مع صديقته قبل المباراة بأسبوع، ولا يمكنه مضاجعتها أو مضاجعة زوجته. هو لم يستخدم مصطلح "تشيّؤ"، أي أن يتحول الإنسان إلى شيء، ولكن هذا هو أدق وصف لما حدث له. في المدارس الثانوية بالولايات المتحدة، تقوم فرق كرة القدم بدراسة تكتيكات الفريق الذي سينازلهم من خلال أفلام فيديو يصورونها لمباراة سابقة له، كما يدرسون أداءهم بنفس الطريقة. هل هذا له علاقة بالتسلية واللعب، أم أنه ينبع من نموذج مادي صراعي يجعل الفوز وهزيمة الآخر هو الهدف الوحيد؟ ومن هنا تدفع المكافآت السخية لأعضاء الفريق الفائز. وتنتهي المباريات في الآونة الأخيرة بمعارك يُجرح فيها بعض الناس، بل وقُتل ضابط شرطة في إيطاليا بعد مباراة حامية الوطيس.. كل هذا يعني هيمنة النموذج الصراعي وتراجع النموذج الإنساني التراحمي. وقد اقتحمت أخلاقيات السوق عالم الرياضة فيتم "بيع" لاعب مغربي لنادي إيطالي، ولاعب إيطالي لنادي ليبي وهكذا، وكأننا في سوق النخاسة. ولذا بدلا من الانتماء إلى الوطن والقيم يصبح الانتماء إلى المال، المحرك الأول للإنسان الاقتصادي. ونسمع بعد ذلك عن عدد كبير من الرياضيين يستخدم المخدرات والأدوية المنشطة الممنوعة لتحقيق النصر. ويتقاضى أعضاء الفريق الفائز مبالغ طائلة مكافأة لهم، وهى مكافآت سخية على أدائهم، قد تصل إلى مرتب أستاذ جامعي لعدة سنوات. بل في إحدى الجولات الرياضية حصل كل عضو من أعضاء الفريق الفائز على سيارة "بي.أم.دبليو" وهذه قمة الأحلام العلمانية! أين كل هذا من قيم التعاون والصراع الرقيق والمرجعية الإنسانية؟ لقد اقتحمت اقتصاديات السوق هذا القطاع تماما، وسيطرت عليه قوانين العرض والطلب والمادية وتم تشييء الإنسان ونزع القداسة عنه، وتحوّل إلى مادة استعمالية مرنة ليس فيها من الإنسانية سوى الاسم، أي أن النموذج المادي الصراعي الدارويني قد ساد تماماً. هذه هي مأساة الحضري الذي وقع صريع هذا النموذج، وسلك سلوكاً متسقاً معه، فهاجت الدنيا ضده؟ والسؤال هو: لماذا هذا الهيجان والتهيج؟ أليست المسألة مسألة عرض وطلب لا مسألة انتماء وطني وإنساني؟! وعلى أية حال، بعد الهيجان استقرت الأمور داخل إطار الخصخصة وقبل النادي الأهلي التعويض المالي المناسب عن فقدانه إحدى أشيائه الثمينة.. والله أعلم.

المصدر : الجزيرة نتآخر ما نشر للدكتور عبد الوهاب المسيري 3/7/2008

Sunday, July 13, 2008

قصيدة :"عاطـــل " الشاعر عبدالرحمن يوسف


(عـَاطـِــــل...!)
=======

أرْضـَـى ...
و لا يَـرْضَـى الـزَّمـَـانُ بـِمَــا تـَحَـقـَّــقَ مِــنْ رِضَــايَ
و إنْ ضَـجـِــرْتُ أرَى الـزَّمـَــانَ يـَبـُـثُّ في وَجْهـِـي الـضَّـجـَــرْ ...!
أبـْكِـي ...
و لا يـَبْـكِــي الـزَّمـَــانُ لـِمـَـا تـَسَــرَّبَ مِـنْ بـُكـَائِـيَ خِـفـْيـَـة ً
و إذا ضَحِـكـْــتُ أرَى الـزَّمـَــانَ يـَـرُدُّ ضِحْـكِــي ضـَاحِـكـَــاً
بـِشـَمَـاتـَـةٍ تـُلـْقـَـى بـِوَجْهـِـي كـَالـحَـجَــرْ ...!
أشـْكـُــو ...
و لا أجـِــدُ احْـتِـمَــالاتٍ لإصْـغـَــاءٍ لـِشـَكـْــوايَ الـتـي
مـَا زِلـْـتُ أكـْتـُبـُهَــا و أرْسُـمُـهَــا و أنـْحِـتـُهـَــا و أعـْـزِفـُهَــا
و أُنـْشِـدُهـَـا و أُخـْفِـيـهـَـا و أَنـْشـُرُهـَـا و أُرْسِـلـُهـَـا
و أغـْزِلـُهـَـا و أفـْتِـلـُهـَـا و أُلـْقِـيهـَـا و أحْـمِـلـُهـَــا ...
لأرْجـِـعَ للهُـمُــوم ِ مُـطـَأطِـئـَـاً ...
كـَالطـِّفـْــل ِ عـَــادَ لأُمـِّــهِ دُونَ الحَـليــبِ أو الجُـنـَيـْهِ
و دُونـَمَـا صَـحْــن ٍ مِــنَ الفـُخـَّـار ِفي الـدَّرْبِ انـْكـَسَــرْ ...!
أدْعـُــو ...
و لا رَبٌ يُـسَـايـِرُنـِـي بـِـأيِّ بـِشَــارَةٍ تـُعْـطِــي احْـتِـمـَـالَ إجـَابـَـةٍ
و كـَأنـَّنِـي أدْعُــو بـِمَـا لا يـُسْـتـَجـَــابُ ...
كـَأنَّ إلحَـاحِــي عـَلى رَبـِّـي بَــدَا كـُفـْــرَاً صَريحَــاً بالقـَــدَرْ ...!
* * *
أنـَـا في طـريــق ِ العُـسْــر ِمَــاش ٍ للأبـَــدْ ...
أنـَـا أرْنـَـبُ الأحْــلام ِ في فـَـكِّ الأسـَــدْ ...

أنا لانـْقِــلابِ الحـَـال ِ مَـضـْــرُوبٌ مِـثـَالاً كـَيـْـفَ جَــدَّ ومَـا وَجَــدْ ...!
أنـَا مَـنْ تـَعـَلـَّـمَ – بَـعْـدَمَـا فـَـاتَ الأوانُ – بـأنَّ أرْضَ العـُـرْبِ قـَاسِـيـَـة ٌ
عَـلى مَـنْ في دِرَاسَـتِـهِ اجْـتـَهـَـدْ ...
كـُلُّ الـكـَرَاسِـي وُرِّثـَـتْ في مَـوْطِـنِــي ...
مِـنْ إسـْـتِ شـَاغِـلِـهـَـا ...
إلـى إسـْـتِ الـوَلـَــدْ ...!
و إذا اعْـتـَرَضْـتَ فـَأنـْـتَ مَـوْتـُـورٌ و مَـسْـعـُـورٌ و مَـأجـُــورٌ
و مِـنْ أهـْـل ِ الحَـسَــدْ ...!
و إذا شـَكـَـوْتَ فـَأنـْــتَ حَـتـْمـَـاً كـَـارِهٌ هَــذا الـبَـلـَــدْ ...!
أو أنـْـتَ مَجْـنـُـونٌ يُـعَـانِـي مِـنْ عُـقـَــدْ ...
أنـَا عَـاطـِـلٌ مَـا زِلـْـتُ أمْـشِـي في البَـطـَالـَـةِ دَرْبَ مِـحْـنـَـة ْ ...!
رَقـْـمٌ صَـغِـيــرٌ في الـَمَـلايـيــن ِالتـي تـَحْـيـَـا التـَّعَـطـُّــلَ سِـجْـنَ فِـتـْنـَـة ْ ...!
عـِـبْءٌ عَـلى وَطـَنِــي .../
عـِـبْءٌ عَـلـى أهْـلِـي .../
عـِـبْءٌ عَـلـى ذَاتِـي ... و أسْـوَأُ مَـا رَأتْ عَـيْـنـَـايَ مِـنْ تـَعـَـبِ المَـعِـيـشـَــةِ
أنْ يـُريــحَ الـمَـــرْءُ ذِهْـنـَــه ْ...
جـِسْـمِــي سَـلِـيـــمٌ ...
لـَيـْـسَ مَـطـْبـُوعـَــاً عَـلـى حَـرَكـَاتـِـهِ آثـَـارُ مِـهْـنـَــة ْ...!
دَمْعِـي يَـبـُـوحُ و لا يـَبـُــوحْ ...
و الـصَّـمـْـتُ مَـتـْـنُ الـعَـجـْــز ِ...
تـُعْـجـِـزُهُ الـشـُّــرُوحْ ...
إزْمِـيــلُ يَـأسِـي يُـرْسِــلُ الـضـَّـرَبـَــاتِ يَـهْــدِمُ مَـا بَـنـَيـْــتُ مِــنَ الـصُّــرُوحْ ...
ضَـرَبـَـاتُ ذا الإزْمِـيــل ِ لـَـمْ تـَقـْتـُــلْ طـُمُـوحِــي

إنـَّمـَـا قـَـدْ غـَيـَّــرَتْ نـَــوْعَ الـطـُّمـُـوحْ ...!
عـَـدَدُ الجُــرُوح ِعَـلـى ذِرَاعِــيَ ثـَابـِــتٌ
و إذا تـَأمَّـلـْــتُ اكـْتـَشـَفـْــتُ تـَغـَيـُّــرَاً في عُـمْــق ِهَـاتـيــكَ الجـُـرُوحْ ...!حـُرِّيـَـة ُ الأوْطـَـان ِ، قـَامـُـوسُ الـسِّـيَـاسـَـةِ ، مـَجْـلِــسُ الـنـُّـوَّابِ ،
سِـعـْــرُ الـصَّــرْفِ لـلـــدٌّولار ِ، أمـْــنُ الـدَّوْلـَــةِ الـقـَوْمِــيِّ ،
صَـفـْقـَــاتُ الـسِّــلاح ِ، رُكـُــودُ سـُــوق ِ الـمـَــال ِ، قـَانـُــونُ الـصَّحـَافـَــةِ ،
لـَجْـنـَـة ُ الأحـْــزَابِ ، تـَغـْيـيــرُ الــوِزَارَةِ ، مـَعـْـــرِضٌ لـلـفـَـــنِّ ...
لـَيـْــسَ يـَهـُمـُّنـِــي ... !
لا وَقـْــتَ للأفـْكـَــار ِ ...
للكـَلِـمـَــاتِ ...
لـلأنـْغـَــام ِ ...
لـلـتـَّنـْظِـيــر ِ ...
مُـنـْغـَمِـسـَــاً بـِبَـحْـثِــي عَــنْ مُــذِلٍّ سَــوْفَ يَـقـْبـَلـُنِــي لأُسْـبـُــوع ٍ
يـُمَــارِسُ ذُلــَّــهُ بالـرَّاتِــبِ البـَـادي كـَنـُدْبـَــةِ خـِنـْجـَــر ٍ
قـَــدْ جـُـدِّدَتْ في كـُــلِّ شـَهـْــر ٍ فـَــوْقَ وَجْـهـِـي فـي وُضـُــوحْ ...
أنـَـا لاجـِـئٌ فـي مَـوْطِـنـِــي ...
و مـُخـَيـَّمَـاتِــي تـَمْــلأ ُ الآفـَــاقَ ...
أسْـكـُنـُهـَــا ... و تـَسْـكـُنـُنـِــي ...
أبـيــتُ عَلى الجَــوى مُـسْـتـَعْـمَــرَاً بـِجـُـنـُـــودِ الاسْـتِـقـْــلال ِ
أبْحـَــثُ في دُرُوبِ الأرْض ِ عـَــنْ دَرْبِ الـنـُّـــزُوحْ ...!
* * *
أخـْرَجـْـتُ مِــنْ حَـصَّـالـَتِــي كـُــلَّ الــذي مـُنـْــذُ الطـُّفـُولـَــةِ
لانـْقِـلابـَــاتِ الـزَّمـَـان ِ ذَخـَرْتـُــهُ خـَــوْفَ الـزَّمـَــنْ ...!عِـيـدِيـَّـة َ الأجـْــدَادِ ، جـَائِــزَة َ الـتـَّفـَـوُّق ِ، إرْثَ أمِّـي ،
بَـدْلـَتِـي الـسَّــوْدَاءَ للأفـْــرَاح ِ أو للعِـيــدِ أو للمـَـوْتِ ،
مَـصْــرُوفاً إضَـافـِيـــًا لعُـرْسِــي
( أو لأجْــل ِأبـي إذا احْـتـَـاجَ الــدَّوَاءَ أو الكـَفـَــنْ ) ...!
و حُـلـِـيُّ أخـْتِــي قـَـدْ تـَسـَــرَّبَ جُـلـُّـــهُ ...
لـَـمْ يـَبـْــقَ إلا قِـطـْعـَـة ٌ أو قِـطـْعَـتـَــان ِ بـِدُرْجـِهـَـا لـَـمْ تـُرْتـَهـَــنْ ...
و مَـوَارِدي أنـْفـَقـْتـُهـَــا في الأكـْـل ِ – لا الـدُّخـَّــان ِ–
ثـُـمَّ قـَـدِ اسْـتـَـدَنـْــتُ لـدَفـْـع ِ إيجـَــار ِ الـسَّـكـَــنْ ...
و خـَسِــرْتُ أصْحـَابـِـي بـُعَـيـْــدَ نِـقـَاشِـنـَـا في لـَيْـلـَـةٍ لـَيْــلاءَ ...
عـَــنْ حـُـــبِّ الـوَطـَـــنْ ...!!!
* * *
عُـمْــري فـُصُــولٌ في جَـحِـيـــم ِ المَـحْـرَقـَـة ْ
أو مَـرْكـَــــبٌ مـَــــوْجُ المَـظـَالـِـــــم ِ أغـْرَقــَـــهْ
هـُـوَ مَـنـْطِــقُ الأغـْنـَـى يـُسَـيـِّـــرُ أرْضـَنـَــا
و أنـَــا بعَـقـْلـــي لـَسْــــتُ أفـْهـَـــمُ مَـنـْطِـقــَــهْ !
صَـفـَعـَـاتُ أرْضِـي فـَـوْقَ وَجـْهِ مَـطـَامِـحِـي
جَـعَـلـَــتْ غـَــرَامَ الأرْض ِ مِـثـْـــلَ الهَـرْطـَقـَــة ْ
صَـبـُّــوا طـُمُـوحِــي فـي رَغـِيـــفٍ أسـْـــوَدٍ
و أنـَـــا سَـجـيـــــنٌ فـي حُــــــدُودِ الـبَـوْتـَقــَـــة ْ


شـَكـِّـــي بـكـُـــلِّ مَـوَاهِـبـــــي مُـتـَحَـكـِّـــــمٌ
و عـَلاقـَتِــي بـالنـَّفـْــس ِ تـَنـْقـُصُهـَــا الـثـِّقـَــــة ْ
قـَــدْ كـُنـْـــتُ في يـَـــوْم ٍ أطِـيــرُ مُـحَـلـِّقـَــاً
و اليَــوْمَ تـَهـْــوي فـَــوْقَ رَأسـِــي المِـطـْرَقــَــة ْ
فـَمُـنـِحـْـتُ مَـنـْـعَ الـرُّوح ِ مِـنْ إشْـرَاقهـَـا
و كـَـــــذا طـَليعـَـــــة ُ جـيلِـنـَــــا المُـتـَفـَوِّقــَــــة ْ
عـَـنْ فـُرْصَـةِ العَـمَـل ِانـْبَــرَى مِـذْيَاعُـنـَـا
يُهْـــدي لـَنـَـا شـَمـْــسَ الصَّـبَــاح ِ المُـشـْرقـَــة ْ
وَطـَنٌ بـِحَجـْـم ِ الشـَّمْـس ِ يـَبْـدُو وَاسِـعـَـاً
و أمَـــامَ أحْـلامـِــي تـُــرَى مـَـــنْ ضـَيـَّقـَـــهْ !؟
وَعـَدَتْ حُكـُومَاتـِي .. و تـُخْلـِـفُ وَعْـدَهـَا
كَـعِـصَـابـَـــةٍ مَـنـَعـَــــتْ تـَفـَتـُّـــحَ زَنـْبَـقـَــــة ْ
و أنـَــا فـَرَاشـَـــة ُ مَـوْطِـنـِــي لـَكِـنـَّهـُـــمْ
حَـظـَــرُوا خـُرُوجـِي مِـنْ خـُيـُـوطِ الشـَّرْنـَقـَــة ْ
وطـَنِي هُـمُـومِـي لـَسْـتُ أعـْـرفُ غـَيـْـرَهُ
أحْـيـَـــا بـِــهِ وَحـْــــدي بـِــــرُوح ٍ مُـزْهَـقـَـــة ْ
هَـيْـهَـاتَ أعْـشـَـقُ مَـوْطـِنِـي و ذِرَاعـُهُ
لـَفـَّــتْ عَـلـى الأحْــلام ِ حَـبْــلَ المِـشـْنـَقـَــة ْ !
* * *


أنـَا عَـاطـِـلٌ ...
لـكِـنـَّـنـِــي لـي مِـهْـنـَـة ٌ أتـْقـَنـْتـُهـَــا ...
هِـيَ أنْ أجـُــوبَ الأرْضَ أبْـحـَــثُ عـَــنْ عـَمـَـــلْ ...
و أعـيــشُ في جـُــبِّ الـبـَطـَالـَــةِ مُـرْهـَقـَــاً
و مـِــنَ الـمَـعَـايـِــش ِ مـَـا قـَتــَــلْ ...!
تـَعِــبَ الحِـذَاءُ مـِــنَ الحِجـَـارَةِ عـَبـْــرَ دَرْب ٍ
بـَـاتَ مُـمْـتـَــدَّاً طـَويــلا ً مـثـْـلَ عـُمـْـر ٍ يَـنـْتـَهـِــي في المُـقـْتـَبـَــلْ ...
لـي مِـهْـنـَـة ٌ في كـُــلِّ أُسْـبـُــوع ٍ أُغـَيـِّرُهـَــا ...
تـُغـَيـِّـرُنـِــي ...
و لـَكِــنْ رَغـْــمَ تـَغـْيـيــري الـمُـكـَــرَّر ِ
قـَـدْ سَـئِـمـْــتُ العُـمْــرَ مـِــنْ ضَـغـْـطِ المَـلـَــلْ ...!
أحْـيـَـا عَلـى أمـَــل ِ الـوَظِـيـفــَــةِ يَـائِـسـَــاً
و مِــنَ الـوَظـَائِــفِ مَــا يـَحـُــضُّ عَـلى الـكـَسـَــلْ ...!
لـي مِـهْـنـَــة ٌ مـَــا كـُنـْــتُ أقـْبَـلـُهـَــا إذا خـُيـِّــرْتُ
لـَكِـنـِّــي قـَبـِلـْــتُ تـَدَهـْــوُري خـَلـْــفَ الـمُـسَـمـَّــى بالطـُّمـُــوح ِ
و لـَـمْ أجـِـدْ مـَـا كـَـانَ يـُعـْــرَفُ بالأمـَــلْ ...!
رُوحِــي بـِيـَــوْم ٍ كـَــانَ فيهـَـا بـَعْــضُ أجْـوبـَــةِ الـتـَّسـَــاؤُل ِ
بـَعـْــضُ أشـْعـَــار ِ الـتـَّفـَــاؤُل ِ
لـَكـِــن ِ اليـَــوْمَ اقـْتـَصـَــرْتُ عَـلــى سُــؤَال ٍ وَاحِــدٍ :
أيـْـــنَ الـخـَلــَــلْ !؟
و لـَــرُبَّ مُـشـْكِـلـَــةٍ تـَعِـيـــشُ بأرْضِـنـَــا حَـتـَّــى نـَمـُــوتَ ...
بـِــدُون ِ حـَــلّ ْ ...!
و لـَــرُبَّ مُـحْـتـَــاج ٍ تـَعَـفـَّـــفَ عـَــنْ سُـــؤال ِ الـنـَّـــاس ِ في زُهـْــدٍ

و طـَمـَّـــاع ٍ سـَـــألْ ...!
و لـَــرُبَّ شـَعـْــبٍ يـُنـْتـَعـَـــلْ ...!
و لـَــرُبَّ جَـيـْــش ٍ يـُسْـتـَغـَــلْ ...!
و لـَــرُبَّ جـِيـــل ٍ يـُبْـتـَــذَلْ ...!
و لـَــرُبَّ مَخـْــذُول ٍ خـَــذَلْ ...!
و لـَــرُبَّ أصْـنـَــام ٍ لـَهـَــا سَـجـَــدَ العِـبـَــادُ الـيـَــوْمَ أسْـــوَأ َ مِــنْ "هُـبـَــلْ" ...!
و لـَــرُبَّ قـِصَّــةِ صَـامـِــدٍ لـَكِــنْ بآخِـرِهـَــا قـَــدِ انـْتـَحَـــرَ الـبَـطـَـــلْ ...!
و لـَــرُبَّ صَـحـْــرَاءٍ قـَسَـــتْ حَـتـَّـــى انـْتـَهـَــى صَـبـْـــرُ الـجَـمـَـــلْ ...!
و لـَــرُبَّ رَكـْــبٍ قـَــدْ سَـعـَــى نـَحـْـــوَ الـنـُّجـُـــوم ِ و مـَــا وَصَـــلْ ...!
و لـَــرُبَّ عـُمـْــر ٍ ضـَـاعَ في تـِلــْــكَ الـمَـعـَاهـِـــدِ و الـمـَــدَارس ِ
كـَـــانَ آخـِـــرُهُ الـفـشـَـــلْ ...!
* * *
هَـمِّــــي يـَفـُــــــوقُ تـَمَــــــرُّدَ الهـِمـَــــم ِ
و تـَوَجُّـعـِـــي أقـْـــــوى مِــنَ الـكـَلـِـــــم ِ
لا يـَـأسَ قيــلَ مَـعَ الحَـيـَـاةِ فـَهَــلْ تـُــرَى
قـَـدْ عـَـاشَ مـَـنْ قـَـدْ قـَالـَهـَــا ألـَمِــــي ؟
صَـخـَـبُ الهُـمُـوم ِ يَـهـُـزُّ هَـدْأة َ أحْـرُفِــي
و سِـــوَايَ يـَحْـيـَــا صَـاخِـــبَ الـنـَّغـَــــم ِ
يَا مَـوْطِـنِي .. و قـَـدِ احْـتـَرَقـْتُ بـِصَـرْخـَتِـي
و تـُشِـيــــحُ عـَنـِّــي زَاعِــــمَ الـصَّـمَـــــم ِ

لـَـو أنـَّنِــي قـَصَّــرْتُ عَـبـْــرَ مَـسِـيرَتـِـــي
لـَرَضِـيـــــتُ مِـــنْ دُنـْيـَـــايَ بالعـَــــــدَم ِ
لكـَنـَّنِــــي ذَاكـَـــرْتُ عـَبـْــــرَ تـَعَـلـُّمِــــــي
لأعِـيـــشَ بَـعـْــــدَ الجـِـــدِّ فــي الـنـَّـــدَم ِ
نـَسْــرُ الهـُمـُـوم ِ يـَصِـيـدُ كـُلَّ مَـطـَامِحِـي
و أنـَـــا جـَنـيــــنٌ خـَــــارجَ الـرَّحـِــــــم ِ
النـَّسْـــــرُ يـَأكـُلـُنـِــــي و إنـِّــي سَـائـِــــلٌ
مـَـــاذا يـُحَـرِّكـُــــهُ مـِـــنَ الـنـِّقـَــــــم ِ!؟
النـَّسْــــرُ يـَأكـُلـُنـِـــي .. و إنـِّــي بـَـــاذِلٌ
لـَحْـمِــــي لـَــــهُ فـي غـَايـَـــــةِ الـكـَـــرَم ِ
أنـَــا لـَــنْ أُقـَاوِمـَــهُ .. فـَكـَـمْ شـَاهَـدْتـُــهُ
مُـنـْــذ ُ الطـُّفـُولـَــةَِ سَـاكِـنـَــاً عَـلـَمـِـي !




شعر : عبدالرحمن يوسف



القاهرة
بدأت كتابتها مايو 2007
و انتهت في 9/7/2007
3.00 صباحا




"لاعب النرد " جديد محمود درويش

القدس: يتخذ الشاعر العربي الكبير محمود درويش في آخر قصائده بعنوان "لاعب النرد" قناع "لاعب النرد" الذي "يربح حينا ويخسر حينا" وهو مثل جميع الناس أو "أقل قليلا".
تتناول "لاعب النرد" - وفق صحيفة "القدس" اللندنية - الاحتمالات العديدة التي يمكن أن تأخذ المرء إلى أقدار جديدة، فتميته أو تحييه.
تشبه "لاعب النرد" سيرة ذاتية تستشرف الماضي والحاضر والمستقبل بنفس فلسفي. ونقرأ مقتطفات من القصيدة :





"لاعب النرد "


مَنْ أَنا لأقول لكمْ
ما أَقول لكمْ ؟
وأَنا لم أكُنْ حجراً صَقَلَتْهُ المياهُ
فأصبح وجهاً
ولا قَصَباً ثقَبتْهُ الرياحُ
فأصبح ناياً ...


أَنا لاعب النَرْدِ ،
أَربح حيناً وأَخسر حيناً
أَنا مثلكمْ
أَو أَقلُّ قليلاً ...
وُلدتُ إلي جانب البئرِ
والشجراتِ الثلاثِ الوحيدات كالراهباتْ
وُلدتُ بلا زَفّةٍ وبلا قابلةْ
وسُمِّيتُ باسمي مُصَادَفَةً
وانتميتُ إلي عائلةْ
مصادفَةً ،
ووَرِثْتُ ملامحها والصفاتْ
وأَمراضها :
أَولاً - خَلَلاً في شرايينها
وضغطَ دمٍ مرتفعْ
ثانياً - خجلاً في مخاطبة الأمِّ والأَبِ
والجدَّة - الشجرةْ
ثالثاً - أَملاً في الشفاء من الانفلونزا
بفنجان بابونج ٍ ساخن ٍ
رابعاً - كسلاً في الحديث عن الظبي والقُبَّرة
خامساً - مللاً في ليالي الشتاءْ
سادساً - فشلاً فادحاً في الغناءْ ...
ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ
كانت مصادفةً أَن أكونْ
ذَكَراً ...
ومصادفةً أَن أَري قمراً
شاحباً مثل ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات
ولم أَجتهد
كي أَجدْ
شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً !
كان يمكن أن لا أكونْ
كان يمكن أن لا يكون أَبي
قد تزوَّج أُمي مصادفةً
أَو أكونْ
مثل أُختي التي صرخت ثم ماتت
ولم تنتبه
إلي أَنها وُلدت ساعةً واحدةْ
ولم تعرف الوالدة ْ ...
أَو : كَبَيْض حَمَامٍ تكسَّرَ
قبل انبلاج فِراخ الحمام من الكِلْسِ /
كانت مصادفة أَن أكون
أنا الحيّ في حادث الباصِ
حيث تأخَّرْتُ عن رحلتي المدرسيّة ْ
لأني نسيتُ الوجود وأَحواله
عندما كنت أَقرأ في الليل قصَّةَ حُبٍّ
تَقمَّصْتُ دور المؤلف فيها
ودورَ الحبيب - الضحيَّة ْ
فكنتُ شهيد الهوي في الروايةِ
والحيَّ في حادث السيرِ /
لا دور لي في المزاح مع البحرِ
لكنني وَلَدٌ طائشٌ
من هُواة التسكّع في جاذبيّة ماءٍ
ينادي : تعال إليّْ !
ولا دور لي في النجاة من البحرِ
أَنْقَذَني نورسٌ آدميٌّ
رأي الموج يصطادني ويشلُّ يديّْ
كان يمكن أَلاَّ أكون مُصاباً
بجنِّ المُعَلَّقة الجاهليّةِ
لو أَن بوَّابة الدار كانت شماليّةً
لا تطلُّ علي البحرِ
لو أَن دوريّةَ الجيش لم تر نار القري
تخبز الليلَ
لو أَن خمسة عشر شهيداً
أَعادوا بناء المتاريسِ
لو أَن ذاك المكان الزراعيَّ لم ينكسرْ
رُبَّما صرتُ زيتونةً
أو مُعَلِّم جغرافيا
أو خبيراً بمملكة النمل
أو حارساً للصدي !
مَنْ أنا لأقول لكم
ما أقول لكم
عند باب الكنيسةْ
ولستُ سوي رمية النرد
ما بين مُفْتَرِس ٍ وفريسةْ
ربحت مزيداً من الصحو
لا لأكون سعيداً بليلتيَ المقمرةْ
بل لكي أَشهد المجزرةْ
نجوتُ مصادفةً : كُنْتُ أَصغرَ من هَدَف عسكريّ
وأكبرَ من نحلة تتنقل بين زهور السياجْ
وخفتُ كثيراً علي إخوتي وأَبي
وخفتُ علي زَمَن ٍ من زجاجْ
وخفتُ علي قطتي وعلي أَرنبي
وعلي قمر ساحر فوق مئذنة المسجد العاليةْ
وخفت علي عِنَبِ الداليةْ
يتدلّي كأثداء كلبتنا ...
ومشي الخوفُ بي ومشيت بهِ
حافياً ، ناسياً ذكرياتي الصغيرة عما أُريدُ
من الغد - لا وقت للغد -
أَمشي / أهرولُ / أركضُ / أصعدُ / أنزلُ / أصرخُ / أَنبحُ / أعوي / أنادي / أولولُ / أُسرعُ / أُبطئ / أهوي / أخفُّ / أجفُّ / أسيرُ / أطيرُ / أري / لا أري / أتعثَّرُ / أَصفرُّ / أخضرُّ / أزرقُّ / أنشقُّ / أجهشُ / أعطشُ / أتعبُ / أسغَبُ / أسقطُ / أنهضُ / أركضُ / أنسي / أري / لا أري / أتذكَّرُ / أَسمعُ / أُبصرُ / أهذي / أُهَلْوِس / أهمسُ / أصرخُ / لا أستطيع / أَئنُّ / أُجنّ / أَضلّ / أقلُّ / وأكثرُ / أسقط / أعلو / وأهبط / أُدْمَي / ويغمي عليّ /
ومن حسن حظّيَ أن الذئاب اختفت من هناك
مُصَادفةً ، أو هروباً من الجيش ِ /
لا دور لي في حياتي
سوي أَنني ،
عندما عَـلَّمتني تراتيلها ،
قلتُ : هل من مزيد ؟
وأَوقدتُ قنديلها
ثم حاولتُ تعديلها ...
كان يمكن أن لا أكون سُنُونُوَّةً
لو أرادت لِيَ الريحُ ذلك ،
والريح حظُّ المسافرِ ...
شمألتُ ، شرَّقتُ ، غَرَّبتُ
أما الجنوب فكان قصياً عصيّاً عليَّ
لأن الجنوب بلادي
فصرتُ مجاز سُنُونُوَّةٍ لأحلِّق فوق حطامي
ربيعاً خريفاً ..
أُعمِّدُ ريشي بغيم البحيرةِ
ثم أُطيل سلامي
علي الناصريِّ الذي لا يموتُ
لأن به نَفَسَ الله
والله حظُّ النبيّ ...
ومن حسن حظّيَ أَنيَ جارُ الأُلوهةِ ...
من سوء حظّيَ أَن الصليب
هو السُلَّمُ الأزليُّ إلي غدنا !
مَنْ أَنا لأقول لكم
ما أقولُ لكم ،
مَنْ أنا ؟
كان يمكن أن لا يحالفني الوحيُ
والوحي حظُّ الوحيدين
إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ
علي رُقْعَةٍ من ظلامْ
تشعُّ ، وقد لا تشعُّ
فيهوي الكلامْ
كريش علي الرملِ /
لا دَوْرَ لي في القصيدة
غيرُ امتثالي لإيقاعها :
حركاتِ الأحاسيس حسّاً يعدِّل حساً
وحَدْساً يُنَزِّلُ معني
وغيبوبة في صدي الكلمات
وصورة نفسي التي انتقلت
من أَنايَ إلي غيرها
واعتمادي علي نَفَسِي
وحنيني إلي النبعِ /
لا دور لي في القصيدة إلاَّ
إذا انقطع الوحيُ
والوحيُ حظُّ المهارة إذ تجتهدْ
كان يمكن ألاَّ أُحبّ الفتاة التي
سألتني : كمِ الساعةُ الآنَ ؟
لو لم أَكن في طريقي إلي السينما ...
كان يمكن ألاَّ تكون خلاسيّةً مثلما
هي ، أو خاطراً غامقاً مبهما ...
هكذا تولد الكلماتُ . أُدرِّبُ قلبي
علي الحب كي يَسَعَ الورد والشوكَ ...
صوفيَّةٌ مفرداتي . وحسِّيَّةٌ رغباتي
ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلاَّ
إذا التقتِ الاثنتان ِ :
أَنا ، وأَنا الأنثويَّةُ
يا حُبّ ! ما أَنت ؟ كم أنتَ أنتَ
ولا أنتَ . يا حبّ ! هُبَّ علينا
عواصفَ رعديّةً كي نصير إلي ما تحبّ
لنا من حلول السماويِّ في الجسديّ .
وذُبْ في مصبّ يفيض من الجانبين .
فأنت - وإن كنت تظهر أَو تَتَبطَّنُ -
لا شكل لك
ونحن نحبك حين نحبُّ مصادفةً
أَنت حظّ المساكين /
من سوء حظّيَ أَني نجوت مراراً
من الموت حبّاً
ومن حُسْن حظّي أنيَ ما زلت هشاً
لأدخل في التجربةْ !
يقول المحبُّ المجرِّبُ في سرِّه :
هو الحبُّ كذبتنا الصادقةْ
فتسمعه العاشقةْ
وتقول : هو الحبّ ، يأتي ويذهبُ
كالبرق والصاعقة
للحياة أقول : علي مهلك ، انتظريني
إلي أن تجفُّ الثُمَالَةُ في قَدَحي ...
في الحديقة وردٌ مشاع ، ولا يستطيع الهواءُ
الفكاكَ من الوردةِ /
انتظريني لئلاَّ تفرَّ العنادلُ مِنِّي
فاُخطئ في اللحنِ /
في الساحة المنشدون يَشُدُّون أوتار آلاتهمْ
لنشيد الوداع . علي مَهْلِكِ اختصريني
لئلاَّ يطول النشيد ، فينقطع النبرُ بين المطالع ،
وَهْيَ ثنائيَّةٌ والختامِ الأُحاديّ :
تحيا الحياة !
علي رسلك احتضنيني لئلاَّ تبعثرني الريحُ /
حتي علي الريح ، لا أستطيع الفكاك
من الأبجدية /


لولا وقوفي علي جَبَل ٍ
لفرحتُ بصومعة النسر : لا ضوء أَعلي !
ولكنَّ مجداً كهذا المُتوَّجِ بالذهب الأزرق اللانهائيِّ
صعبُ الزيارة : يبقي الوحيدُ هناك وحيداً
ولا يستطيع النزول علي قدميه
فلا النسر يمشي
ولا البشريُّ يطير
فيا لك من قمَّة تشبه الهاوية
أنت يا عزلة الجبل العالية !
ليس لي أيُّ دور بما كُنْتُ
أو سأكونْ ...
هو الحظُّ . والحظ لا اسم لَهُ
قد نُسَمِّيه حدَّادَ أَقدارنا
أو نُسَمِّيه ساعي بريد السماء
نُسَمِّيه نجَّارَ تَخْتِ الوليد ونعشِ الفقيد
نسمّيه خادم آلهة في أساطيرَ
نحن الذين كتبنا النصوص لهم
واختبأنا وراء الأولمب ...
فصدَّقهم باعةُ الخزف الجائعون
وكَذَّبَنا سادةُ الذهب المتخمون
ومن سوء حظ المؤلف أن الخيال
هو الواقعيُّ علي خشبات المسارح ِ /
خلف الكواليس يختلف الأَمرُ
ليس السؤال : متي ؟
بل : لماذا ؟ وكيف ؟ وَمَنْ
مَنْ أنا لأقول لكم
ما أقول لكم ؟
كان يمكن أن لا أكون
وأن تقع القافلةْ
في كمين ، وأن تنقص العائلةْ
ولداً ،
هو هذا الذي يكتب الآن هذي القصيدةَ
حرفاً فحرفاً ، ونزفاً ونزفاً
علي هذه الكنبةْ
بدمٍ أسود اللون ، لا هو حبر الغراب
ولا صوتُهُ ،
بل هو الليل مُعْتَصراً كُلّه
قطرةً قطرةً ، بيد الحظِّ والموهبةْ
كان يمكن أن يربح الشعرُ أكثرَ لو
لم يكن هو ، لا غيره ، هُدْهُداً


فوق فُوَهَّة الهاويةْ


ربما قال : لو كنتُ غيري
لصرتُ أنا، مرَّةً ثانيةْ
هكذا أَتحايل : نرسيس ليس جميلاً
كما ظنّ . لكن صُنَّاعَهُ
ورَّطوهُ بمرآته . فأطال تأمُّلَهُ
في الهواء المقَطَّر بالماء ...
لو كان في وسعه أن يري غيره
لأحبَّ فتاةً تحملق فيه ،
وتنسي الأيائل تركض بين الزنابق والأقحوان ...
ولو كان أَذكي قليلاً
لحطَّم مرآتَهُ
ورأي كم هو الآخرون ...
ولو كان حُرّاً لما صار أُسطورةً ...
والسرابُ كتابُ المسافر في البيد ...
لولاه ، لولا السراب ، لما واصل السيرَ
بحثاً عن الماء . هذا سحاب - يقول
ويحمل إبريق آماله بِيَدٍ وبأخري
يشدُّ علي خصره . ويدقُّ خطاه علي الرمل ِ
كي يجمع الغيم في حُفْرةٍ . والسراب يناديه
يُغْويه ، يخدعه ، ثم يرفعه فوق : إقرأ
إذا ما استطعتَ القراءةَ . واكتبْ إذا
ما استطعت الكتابة . يقرأ : ماء ، وماء ، وماء .
ويكتب سطراً علي الرمل : لولا السراب
لما كنت حيّاً إلي الآن /
من حسن حظِّ المسافر أن الأملْ
توأمُ اليأس ، أو شعرُهُ المرتجل
حين تبدو السماءُ رماديّةً
وأَري وردة نَتَأَتْ فجأةً
من شقوق جدارْ
لا أقول : السماء رماديّةٌ
بل أطيل التفرُّس في وردةٍ
وأَقول لها : يا له من نهارْ !
ولاثنين من أصدقائي أقول علي مدخل الليل :
إن كان لا بُدَّ من حُلُم ، فليكُنْ
مثلنا ... وبسيطاً
كأنْ : نَتَعَشَّي معاً بعد يَوْمَيْنِ
نحن الثلاثة ، مُحْتَفلين بصدق النبوءة في حُلْمنا
وبأنَّ الثلاثة لم ينقصوا واحداً
منذ يومين ،
فلنحتفل بسوناتا القمرْ
وتسامُحِ موت رآنا معاً سعداء
فغضَّ النظرْ !
لا أَقول : الحياة بعيداً هناك حقيقيَّةٌ
وخياليَّةُ الأمكنةْ
بل أقول : الحياة ، هنا ، ممكنةْ
ومصادفةً ، صارت الأرض أرضاً مُقَدَّسَةً
لا لأنَّ بحيراتها ورباها وأشجارها
نسخةٌ عن فراديس علويَّةٍ
بل لأن نبيّاً تمشَّي هناك
وصلَّي علي صخرة فبكتْ
وهوي التلُّ من خشية الله
مُغْميً عليه
ومصادفةً ، صار منحدر الحقل في بَلَدٍ
متحفاً للهباء ...
لأن ألوفاً من الجند ماتت هناك
من الجانبين ، دفاعاً عن القائِدَيْنِ اللذين
يقولان : هيّا . وينتظران الغنائمَ في
خيمتين حريرَيتَين من الجهتين ...
يموت الجنود مراراً ولا يعلمون
إلي الآن مَنْ كان منتصراً !
ومصادفةً ، عاش بعض الرواة وقالوا :
لو انتصر الآخرون علي الآخرين
لكانت لتاريخنا البشريّ عناوينُ أُخري
أُحبك خضراءَ . يا أرضُ خضراءَ . تُفَّاحَةً
تتموَّج في الضوء والماء . خضراء . ليلُكِ
أَخضر . فجرك أَخضر . فلتزرعيني برفق...
برفق ِ يَدِ الأم ، في حفنة من هواء .
أَنا بذرة من بذورك خضراء ... /
تلك القصيدة ليس لها شاعر واحدٌ
كان يمكن ألا تكون غنائيَّةَ ...
من أنا لأقول لكم
ما أَقول لكم ؟
كان يمكن أَلاَّ أكون أَنا مَنْ أَنا
كان يمكن أَلاَّ أكون هنا ...
كان يمكن أَن تسقط الطائرةْ
بي صباحاً ،
ومن حسن حظّيَ أَني نَؤُوم الضحي
فتأخَّرْتُ عن موعد الطائرةْ
كان يمكن أَلاَّ أري الشام والقاهرةْ
ولا متحف اللوفر ، والمدن الساحرةْ
كان يمكن ، لو كنت أَبطأَ في المشي ،
أَن تقطع البندقيّةُ ظلِّي
عن الأرزة الساهرةْ
كان يمكن ، لو كنتُ أَسرع في المشي ،
أَن أَتشظّي
وأصبح خاطرةً عابرةْ
كان يمكن ، لو كُنْتُ أَسرف في الحلم ،
أَن أَفقد الذاكرة .
ومن حسن حظِّيَ أَني أنام وحيداً
فأصغي إلي جسدي
وأُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ
فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق
عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً
وأُخيِّب ظنّ العدم
مَنْ أَنا لأخيِّب ظنَّ العدم ؟
مَنْ أنا ؟ مَنْ أنا


لمشاهدة القصيدة :