من فضلك قم بزيارة مدونتى "تعالوا "

Wednesday, October 8, 2008

الأصولية العلمانية..فهمي هويدي



نشرتها جريدة الخليج الإمارتية..7/10/2008


الأصولية العلمانية التي انتعشت في السنوات الأخيرة لم تنل حقها من الرصد والرد، رغم أنها تطل علينا بين الحين والآخر بأكثر من وجه ولسان، حتى اللغط الدائر حول السنة والشيعة هذه الأيام، لم يفت أبواقها أن تخوض فيه.


(1) لست صاحب مصطلح “الأصولية العلمانية”، الذي اعتبره جديداً بالنسبة لي على الأقل. وهو أكثر تقدماً وأشمل من مصطلح “التطرف العلماني” الذي استخدمته قبل خمس سنوات، وبسببه هاجمني كثيرون من غلاة العلمانيين، واعتبروه محاولة من جانبي لتغيير دفة الحوار الذي كان مثاراً آنذاك حول التطرف الاسلامي، رغم أنني حينذاك كان لي موقفي المعلن في نقد ذلك التطرف، لكني قلت فقط إن الغلو ليس مقصوراً على فئة دون أخرى، ولكنه موجود عند الجميع، بمن فيهم العلمانيون أنفسهم. ولذلك يجب أن نتصدى له على كل الجبهات.

مصطلح الأصولية العلمانية جديد ومثير من زاويتين، الأولى أنه صادر عن اثنين من الباحثين الأمريكيين، والثانية أنه يشير إلى تصور للعلمانية ليس باعتبارها دعوة لاقصاء الدين عن المجال العام من خلال المطالبة بفصل الدين عن الدولة، ولكن باعتبارها فكرة مقدسة وعقيدة، ليست موازية وإنما مخاصمة.

الباحثان الأمريكيان اللذان أشارا إلى المصطلح هما جون اسبوسيتو ومحمد مقتدر خان، وقد أعدا دراسة “حول الدين والسياسة في الشرق الأوسط” نشرت ضمن كتاب “الشرق الأوسط- محاولة للفهم”، أحد إصدارات المشروع القومي للترجمة في مصر وقد تحدثت الدراسة عن أن تحيز نفر من الباحثين إلى العلمانية حول النظرية إلى عقيدة تستند إلى افتراضات مسبقة. وفي رأيهما أنها أصبحت أيديولوجية مسلماً بها. وبمرور الزمن اكتسبت الفكرة قداسة وصارت معتقداً يقوم على الايمان. أشارت الدراسة إلى أن بعض علماء الاجتماع يستشعرون كراهية فطرية وغريزية للدين. وهؤلاء لم يعودوا متحيزين ضد الدين فحسب، وإنما أصبحوا يناصبونه العداء أيضاً.

هذا الايمان الأعمى بالعلمانية لم يمكّن أولئك النفر من الأصوليين من تقدير الدور المهم الذي يضطلع به الدين في الشرق الأوسط، رغم أن مختلف المؤشرات تدل على أنه بصدد أن يصبح القوة الموجهة الرئيسية في ميدان السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين. هكذا قالا. المفارقة أن الكتاب الذي صدر عام ألفين (قامت بتحريره ديبورا جيرنر وترجمه إلى العربية أحمد عبدالحميد) تضمن بحوثاً عدة استهدفت تنوير الأمريكيين وتفهيمهم بصورة متوازنة حقيقة الأوضاع في الشرق الأوسط. لكني وجدته مطلوباً عندنا أيضاً، لأن ذات الصورة الملتبسة عند الأمريكيين بخصوص الاسلام لها نظيرها في حياتنا الثقافية أيضاً.


(2) كشف الأستار عن حقيقة الأصولية العلمانية أسهم فيه أيضاً باحث عراقي متميز هو الأستاذ هادي العلوي في كتابه “المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة”، الذي سجل فيه شهادة استمدت أهميتها ليس فقط من أن الرجل عبر عن رأيه بصراحة كاشفة، ولكن أيضاً لأن صاحبها مثقف له خلفيته الماركسية التي مكنته من أن يحتل موقعاً بارزاً بين القيادات البعثية في العراق. الأمر الذي يعني أنه ليس محسوباً على الحالة الاسلامية من أي باب. في كتابه ذاك الذي طبع في بيروت عام 1998 ذكر العلوي ما نصه: تكتظ الساحة الثقافية بالكتابة عن الاسلام السياسي، أي عن الحركات المسماه أصولية أو سلفية أو دينية. وتشتد وتتكاثف الكتابات حولها إلى حد أن بعض الكتاب ألقى عن نفسه كل عبء غير هذا العبء. وجعل محور نضاله وغايه سعيه أن يتصدى لهذا الاسلام، الذي يزيد خطره على غيره. بل هو الخطر الوحيد الأوحد، بعد أن أعاد هذا البعض ترتيب قائمة “الأعداء” لتشتغل بالاسلام، حيث يصبح أعداء الأمس أحباباً.. فلم تعد الرأسمالية الاحتكارية وغرستها الرأسمالية الكولونيالية، ولا الاستعمار ولا سليلته “إسرائيل” من بين الأعداء. بل هم في نهاية الأمر حلفاء في هذه الحرب المصيرية على الاسلام.

في هذا الصدد ذكر الكاتب أن الدكتور نصر حامد أبوزيد أعلن لجريدة “الاهالي” إبان العدوان “الاسرائيلي” - الأمريكي على لبنان أنه يجب عدم استنكار العدوان، لأنه يعني الوقوف مع حزب الله. وبالتبعية يكون أوثق الحلفاء في هذه الحرب هي أنظمة قطاع الطرق على اختلافها. أضاف إن كاتبة لبنانية من صفوف اليسار قالت في اجتماع مفتوح (حضره الكاتب) إن مشكلتنا ليست الامبريالية ولا أنظمة قطاع الطرق، بل إن الامبريالية مسمى موهوم، وإن الولايات المتحدة تتصرف كدولة مسؤولة عن العالم. وينبغي دعمها لئلا تنهار. وصدق على قولها جميع الجلساء.

أضاف العلوي قائلاً: هكذا يصبح العدو الأوحد لتسعين في المائة من مثقفينا هو الاسلام (السياسي). وهذه الالحاقة للتمويه. فالعدو هو الاسلام نفسه: تاريخه الحضاري وتراثه العظيم ومنجزاته العالمية، التي مهدت بالتكامل مع منجزات الحضارة الصينية لولادة العصر الحديث.

في موضع آخر ذكر الكاتب أن إهدار الجهود الفكرية الضخمة في المناوشة مع الاسلام يصب في المخطط الصهيوني الامبريالي الذي يهدف إلى اشغالنا بحروب جانبية، وإيقاع الخلط في الأولويات والجبهات التي يجب خوض النضال ضدها. وقد حصلت انظمة الفساد على متنفس واسع بانخراط مثقفين يفترض أنهم من صفوف المعارضة في جهازها الاعلامي والأمني، وبما حظيت به من تزكية لدورها في مواجهة المد الديني، بوصفها أنظمة علمانية تكافح في سبيل الفكر التقدمي ولانقاذ الناس من الخرافات. فهي ملاذ الفكر وأداته الضاربة ضد “الظلاميين”.

إن الصراع الحقيقي في الساحات الحقيقية - الكلام لايزال للعلوي- ليس صراعاً فكرياً. ومشكلتنا ليست مشكلة أيديولوجية وما هو مستهدف من قبل العدو ليس الثقافة ولا المثقفين. بل هي أراضينا وثرواتنا وكرامتنا الوطنية. هو صراع بين معتد ومعتدى عليه. بين شعوب وقوى احتلال واستعمار - انتهت الشهادة.


(3) ما سبق اعتبره مفتاحاً لفهم كتابات عديدة تنشرها صحفنا لأناس ركبوا موجة الحرب ضد الإرهاب. واستثمروا أجواء الخصومة الحاصلة بين السلطة وبين بعض الجماعات الاسلامية، وأعلنوها حرباً مفتوحة ضد ما سمي بالاسلام السياسي والأصولية. وعندهم فإن كل من اعتز بدينه ودافع عنه وانحاز إلى نموذجه الحضاري، فلا بد أن يكون أصولياً وامتداداً لحركة الاخوان المسلمين، وخلية متقدمة للاسلام السياسي. وداعياً إلى استنساخ النموذج الايراني في قول ونموذج حركة طالبان في قول آخر. وهو في كل أحواله كائن مشوه، لايؤمن بالدولة المدنية ولايحترم حقوق الانسان. إذا امتدح الديمقراطية فهو منافق ومخادع، وإذا دافع عن التعددية والآخر فهو كذاب، وإذا تحدث في أمور الوطن فهو مدع يخفي أجندته الحقيقية التي يريد بها إقامة الدولة الدينية.

عند هؤلاء، فإن المسلم الملتزم لا يمكن أن يكون سوياً ولا معتدلاً، ولا يمكن أن يكون مكانه خارج التصنيفات التي يحاصرونه فيها. لا هو أصولي ولا إخواني ولا إيراني ولا طالباني. والصورة النمطية التي يريدون ترويجها عنه أنه لا يمكن أن يكون مشغولاً بهموم وطنه وأمته، ومن ثم جزءاً من التيار الوطني العريض، وإنما ينبغي أن يظل محاصراً في قضايا التكفير والحجاب والنقاب وتطبيق الحدود وإقامة الامارة الاسلامية، تمهيداً لاقامة الخلافة وتنصيب الأمامة العظمى.

من مفارقات الأقدار وسخرياتها أن ذلك التنميط الساذج الذي يلح عليه الأصوليون العلمانيون العرب، لم يقع فيه بعض الباحثين الغربيين المعنيين بدراسة المجتمعات الاسلامية. وبين يدي كتاب أصدرته جامعة هارفارد في عام 2003 بعنوان “إسلام بلا خوف” للدكتور ريموند ويليام بيكر أستاذ العلوم السياسية (ترجمته إلى العربية الدكتورة منار الشوربجي ونشر في الأردن هذا العام)، وهو يقدم صورة أكثر أمانة ودقة لمن أسماهم بالاسلاميين الجدد أو الاصلاحيين في مصر، الذين اعتبرهم “قوة تقدمية ومستقلة”. وهو ليس وحيداً في ذلك، فقد سبقه إلى تلك القراءة الأمينة والمنصفة آخرون، في المقدمة منهم البروفيسور جون اسبوسيتو، الذي أصدر هذا العام عدة كتب في ذلك الاتجاه، من بينها مؤلفاته عن الانبعاث الاسلامي، والتهديد الاسلامي بين الحقيقة والوهم، والاسلام والديمقراطية، وأخيراً من يتحدث باسم الإسلام.


(4) ما دعاني إلى ذلك الاستطراد أنه خلال الأسبوعين الأخيرين اللذين أثير خلالهما الجدل في الأوساط الاسلامية حول العلاقات بين الشيعة والسنة، خاض نفر من الأصوليين العلمانيين في الموضوع. ومنهم من لم ير في ذلك الجدل سوى أنه تعبير عن مأزق بين إسلاميين يقدمون السياسة على الدين، وآخرين يتبنون موقفاً معاكساً. البعض الآخر اعتبر المأزق كاشفاً لموقف الاسلاميين من الحرية الفردية وحق الانسان في الاعتقاد والايمان، الأمر الذي سلط الضوء على “الوجه المقبض والمعتم” لتلك الفئة من المتدينين الذين يدعون دفاعاً عن الاعتدال والديمقراطية والدولة المدنية.... إلخ. الأهم من تهافت الحجج التي وردت في الكتابات والأغاليط التي تخللتها أن إخواننا هؤلاء لم يروا في الحوار الدائر أي وجه إيجابي. لم يرصدوا فيه الشفافية والموضوعية والانطلاق من الحرص على المصالح العليا للأمة. من خلال الحث على الاحتشاد لمواجهة المخاطر التي تتهددها، ممثلة أساساً في الاحتلال “الاسرائيلي” والهيمنة الأمريكية. وهي المسؤولية التي تستدعي إما ترحيل ملف الاختلافات المذهبية أو مناقشتها في حدود دوائر أهل العلم، حتى لا تؤثر في وحدة الصف ولا تؤدي إلى بلبلة وتشتيت الرأي العام.

هذا الحوار الذي تركز حول أولويات المرحلة من وجهة النظر الوطنية، وكيفية إدارة الاختلافات السنية الشيعية، تصيده أولئك البعض واعتبروه مناسبة لمواصلة حملة الاغتيال المعنوي والتعبئة المضادة التي تجاهلت تماماً كل ما قيل عن مصلحة الأمة ودعوات التصدي لأعدائها الحقيقيين. الأمر الذي قدم برهاناً جديداً على أن معركتهم الحقيقية هى مع الشقيق وليست مع العدو، وأن الأول هو الخصم الحقيقي وليس الثاني. إنهم يفضلونها حرباً أهلية لتصفية حسابات الصراع الفكري، غير مبالين بإشعال الحرائق في السفينة التي تقل الجميع وهي تترنح موشكة على الغرق.

No comments: