من فضلك قم بزيارة مدونتى "تعالوا "

Tuesday, May 6, 2008

ليست إضرابات صنعها مدونون‏..‏ بل واقع جديد نواجهه بأساليب قديمة


ليست إضرابات صنعها مدونون‏..‏ بل واقع جديد نواجهه بأساليب قديمة
ملحق لغة العصر -جريدة الأهرام المصرية -6/5/2008

بعيدا عن أحداث المحلة وملابساتها‏...‏ كان لافتا للنظر فيما جري يومي‏6‏ إبريل و‏4‏ مايو وما قبلهما عبر الإنترنت أن بعض أجهزة الدولة تعاملت مع ما حدث علي أنه مجرد تصرفات لبضعة أفراد يمكن القضاء عليهم وإزالتهم من الساحة بإجراءات أمنية قضائية سريعة وينتهي الأمر‏,‏ وهي نظرة خارج السياق بالمرة لكونها تعاملت مع واقع جديد بأدوات بالية وقديمة‏.‏ما حدث ليس مجرد صفحة لمجموعة أفراد علي موقع فيس بوك دعوا من خلالها للإضراب ثم تلاها صفحات ومجموعات أخري بمواقع أخري‏,‏ بل ملمح بسيط من ملامح تغيير عميق يمر به المجتمع المصري ـ شأنه شأن غيره من المجتمعات الأخري ـ بفعل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات التي أصبحت خلال السنوات الأخيرة كجواد جامح ينطلق في البراري بأقصي سرعة لأي اتجاه يريد دون توجيه من أحد وبشكل لا يخلو من التلقائية والفجائيةونجم عنها تأثيرات عريضة النطاق تغلغلت إلي مستويات عميقة في كل المجالات فجعلت المجتمعات تعيش حياة فوارة تتبدل فيها الطريقة التي يحيا بها البشر ويشكلون بها أفكارهم ويمارسون بها أعمالهم ويعبرون ويدافعون بها عن مصالحهم وحقوقهم اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا‏,‏ ومن ثم فإن ما جري في هذين اليومين جزء صغير من سياق أكبر وأعمق لا تصح معالجته باعتباره تصرفات فردية‏,‏ بل يحتاج لأن يرد لسياقه العام المتمثل في ظاهرة الديمقراطية الرقمية وآلياتها الجديدة التي تجسد أرقي مشاهد التأثير السياسي لثورة المعلومات‏,‏ لكونها تعصف بالشكل القديم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم وبالمشهد السياسي برمته وتضربه بشدة ليس في مصر فقط ولكن عالميا‏.‏وظاهرة الديمقراطية الرقمية لم تظهر فجأة أو بالمصادفة‏,‏ بل برزت نتيجة سلسلة طويلة من التطورات التي شهدتها المسيرة الإنسانية‏,‏ فعلي مر التاريخ كانت التفاعلات الاجتماعية والعقائدية والدينية والاقتصادية أشبه بالبوتقة التي تفرز باستمرار الكثير من الظواهر السياسية ذات الآليات والأدوات المختلفة‏,‏ وكان متخصصو وعلماء السياسة يرصدون ما يجري داخل هذه البوتقة وما يطرأ علي خليطها أو مزيجها الداخلي من تطورات‏,‏ ويصيغون ذلك كله في أطر نظرية وعلمية مختلفة‏.‏لكن خلال السنوات الأخيرة تبدل الموقف‏,‏ فمن ناحية بات المشهد السياسي العالمي يموج بتيارات عارمة وشاملة وعنيفة في بعض الأحيان‏,‏ تلح في ضرورة نشر الديمقراطية في شتي بقاع الأرض واعتماد قيمها وآلياتها المختلفة‏,‏ مثل إتاحة مشاركة الشعوب في بناء المؤسسات الحاكمة عبر صناديق اقتراع حرة ونزيهة‏,‏ والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار‏,‏ والحرية الكاملة في التعبير عن الرأي‏,‏ والتقويم الحقيقي للأداء والفعالية في المحاسبة وتصحيح الأخطاء‏..‏ الخومن ناحية أخري بلغت ثورة المعلومات شأوا لم تبلغه من قبل وتمخض عنها أدوات بلا حصر‏,‏ تخصصت في التوليد والتداول الرقمي للمعلومات علي نطاق واسع وبأسعار رخيصة فتحت قنوات للتواصل بين ملايين البشر بصورة غير مسبوقة‏,‏ هذا فضلا عن السهولة الشديدة في استخدامها حتي بالنسبة للأميين والمعاقين‏.‏من هنا تهيأت الفرصة لكي يتلاقي ما هو سياسي متمثلا في الديمقراطية مع ما هو تكنولوجي متمثلا في السيادة الرقمية‏,‏ خاصة وأن الآليات الديمقراطية السابقة أصبحت في حاجة أشد لأدوات جديدة لتفعيلها عمليا وعلي نطاق واسع أمام الجماهير الغفيرة من المواطنين‏,‏ وانتهي الأمر بحدوث تلاحم بين الطرفين‏:‏ الرغبة الجامحة في الديمقراطية مع الثورة الجامحة رقميا في عالم المعلومات‏,‏ فدخلت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كعنصر من عناصر المشهد السياسي العامعنصر يتميز بالفتوة والتأثير المتعاظم علي ما سواه من عناصر أخري‏,‏ ومن ثم كان من الطبيعي أن تتغير المخرجات التي تطفو علي سطح الساحة السياسية لتشمل واقعا جديدا وظواهر وممارسات جديدة لا تتوقف جذورها عند ما هو اجتماعي وسياسي واقتصادي وعقائدي وحسب‏,‏ ولكنها تمتد لتشمل ما هو تكنولوجي بالأساس‏.‏بعبارة أخري نجحت البيئة الرقمية التي أفرزتها ثورة المعلومات في أن توفر للديمقراطية بنية أساسية متكاملة الأركان يمكن أن تتحرك فوقها كل فعاليات وأدوات الممارسة الديمقراطية‏,‏ كإبداء الرأي وممارسة حق التصويت وتنظيم الفعاليات والمظاهرات والإضرابات‏,‏ ونجحت في أن تقدم منظومة قادرة علي تداول المعلومات المستخدمة في الممارسة الديمقراطية بغاية السرعة والنعومة والكفاءة فيما بين الأطراف المشاركة‏,‏ وعلي الاستجابة السريعة للطوارئ والفرص‏,‏ وعلي توفير معلومات ذات قيمة حقيقية بسرعة مطلقة وفي الوقت المناسب لمن يحتاجها سواء داخل المؤسسات السياسية أو بين الجماهير‏,‏ فبدأت كثير من الممارسات الديمقراطية تميل إلي التغير بل وتنشأ منها أشكالا لم تكن موجودة من قبل بسبب القوة الهائلة ورخيصة التكلفة وربما المجانية التي تتيحها التكنولوجيا فيما يتعلق بالتواصل بين البشر‏.‏وهنا برزت مجموعة الأدوات التي سادت مرحلة الحوار البطيء غير اللحظي عبر الانترنت ظهر منها في البداية نظام لوحات النشرات الإلكترونية‏,‏ ثم مجموعات الأخبار والمناقشة‏,‏ والقوائم البريدية والمواقع المجانية والمدونات‏,‏ وهي الأدوات التي شكلت العمود الفقري لعمليات التواصل شبه اللحظي بين مئات الملايين من مستخدمي الشبكة حول العالم‏,‏ ثم المنتديات وغرف الدردشة والتراسل الفوري بالصوت والصورة ونظم التصويت الجماعي والشبكات الاجتماعية التي شكلت مرحلة التواصل اللحظي مستندة لتكنولوجيا الجيل الثاني للويب التي ظهرت أخيرا‏.‏من جانبها استخدمت الأنشطة السياسية والفعاليات الديمقراطية الميدانية ـ كالمظاهرات السلمية والإضرابات وحركات العصيان المدني السلمي‏..‏ألخ ـ مجموعة الأدوات السابقة إما كبنية أساسية وحيوية في عمليات الدعوة والتخطيط والتنظيم والحشد والتنفيذ لهذه الأنشطة حينما تتم ميدانيا بالشوارع والميادين ووسط الجماهير الغفيرة‏,‏ أو في القيام بعمليات الدعوة والتخطيط والتنظيم والحشد ثم تنفيذ هذه الأنشطة والفعاليات إلكترونيا حينما تتم افتراضيا وليس بالميادين والشوارع‏.‏ومع تزايد التوظيف العملي لهذه الأدوات ظهر ما يمكن أن نطلق عليه التوجه للجماهير بشكل رأسي وقطاعي مصغر بديلا عن التوجه الأفقي العريض‏,‏ كما ظهر التوجه نحو اللامركزية بدلا عن المركزية‏,‏ ونحو العالمية علي حساب القوميات المحلية‏,‏ والتوجه إلي تهميش وتحجيم دور العديد من الوسطاء في العملية الديمقراطية وفي مقدمتهم الأحزاب السياسية التقليدية وما يناظرها من هياكل الحكم المصابة بالجمود‏,‏ كما ظهر التوجه نحو إلغاء الخطاب الجمعي والتركيز علي الخطاب المفتت الذي يصل لمستوي مخاطبة كل مواطن علي حدة‏.‏في النهاية تبلور الموقف فيما يعرف بالديمقراطية الرقمية التي يمكن تعريفها بأنها‏'‏ توظيف أدوات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرقمية في توليد وجمع وتصنيف وتحليل ومعالجة ونقل وتداول كل البيانات والمعلومات والمعارف المتعلقة بممارسة قيم الديمقراطية وآلياتها المختلفة‏,‏ بغض النظر عن نوع هذه الديمقراطية وقالبها الفكري ومدي انتشارها وذيوعها ومستوي نضجها وسلامة مقاصدها وفعاليتها في تحقيق أهداف مجتمعها‏'.‏إذن نحن أمام ظاهرة‏'‏ سياسية ـ تكنولوجية‏'‏ لم يصوغها ويتعامل معها علماء الاجتماع والسياسة فقط‏,‏ بل يشاركهم فيها وبقوة علماء ثورة التخزين الرقمي والمتخصصون في بناء وتشغيل شبكات المعلومات وبناء المواقع علي الإنترنت ومحللو نظم المعلومات وفوق كل ذلك مستهلكو المعلومات ومستخدمو شبكاتها الذين هم في الوقت نفسه الجماهير العريضة التي يخاطبها أهل السياسة والحكم‏,‏ ولم يعد غريبا أن نشاهد رجال السياسة وعلماءها وقد تحولوا في كثير من الأحيان إلي مستمعين لعلماء المعلوماتية وهم يبشرون ويشرحون الديمقراطية في صورتها الجديدة المستندة لأدوات التكنولوجيا‏,‏ وكيف ستغير هذه التكنولوجيا علاقة الحاكم بالمحكوم وتدق مسمارا قويا ومهما في نعش صندوق الانتخابات التقليدي وطرق التواصل القديمة‏,‏ ليحل محله مفهوم التعبير عن الرأي وصنع القرار عبر الشبكات‏.‏وعمليا برزت الديمقراطية في بعض البلدان وخطت خطوات جعلتها تشب عن الطوق بينما لا تزال تحبو في بلدان أخري ولم تولد بعد في بلدان ثالثة‏,‏ لكنها في كل الأحوال ظهرت علي الساحة كمركب تتمازج فيه الممارسة السياسية مع الأدوات التكنولوجية علي نحو أصاب فريق من الناس بالانبهار والترحاب وفريق آخر بالتوجس والريبة وفريق ثالث بعدم الفهم‏,‏ وقد انعكس التنوع في مستوي النضج والتفاوت في نوعيات ردود الفعل تجاه طريقة فهم واستيعاب وتعريف الظاهرة‏.‏في ضوء كل ما سبق أقول أننا بصدد واقع جديد يعبر عن قوي جديدة بات لها وزن داخل المجتمع‏,‏ والتوصيف الأقرب للواقع لما حدث عبر الإنترنت قبل وأثناء أحداث‏6‏ إبريل و‏4‏ مايو هو أن الأمر ليس علي الإطلاق مجرد مجموعة أفراد هنا أو هناك تلاقت إراداتهم علي فعل شيء بالمصادفة‏,‏ بل نحن أمام ظهور محسوس لقوي جديدة صاعدة بمجتمعنا تتسم بالانتشار وتزايد التأثير‏,‏ وهي إما نبتت في بيئة ثورة المعلومات أو ولدت في بيئة أخري ثم وجدت في ثورة المعلومات مصدرا غنيا متجددا رحبا تتغذي عليه وتنمو تحت ظلاله وهي تحدث التغيير في شكل وبنيان المجتمع والآليات التي يتفاعل بها‏,‏ وهو تغيير لا أحد يعرف إن كان سيتسمر في الانتشار ببطء وسينضج علي مهل أم سيكتسح ما هو قائم بصورة غير متوقعة‏.‏وليس هناك من سبيل للتعامل مع هذه القوي الجديدة سوي أن يهييء المجتمع القائم بكل هياكله وأجهزته ـ في السلطة وخارجها ـ نفسه ليكون قادرا علي التعامل معها بعيدا عن السطحية والانفعال والأساليب القديمة البالية كما حدث من قبل كثير من أجهزة الدولة‏,‏ لأنها كما قلت قوي جديدة في تفكيرها وآليات عملها ومصادر قوتها وضمانات استمرارها‏..‏ قوي بدأت تنمو وقد ينجح البعض في اعتراضها أو إبطاء حركتها قليلا بإجراءات عنيفة هنا أو هناك‏,‏ لكنها في النهاية قوي غير قابلة للوأد والاستئصال‏,‏ بل قابلة فقط للتعايش والترشيد إذا ما تم التعامل معها علي قاعدة
الفهم والحوار‏..‏ وإلي الأسبوع المقبل‏.

جمال محمد غيطاسghietas@ahram0505.net

No comments: